وإذا تنفس عرنين البرد جعله في بيت كنين وأوسع له من العلف. وليس ذلك من كرامة أبي المزاحم - أعني الثور - شد في مثل القطب وجمع له جماح العطب، ولا نزعت فروة أبي الطيب - أعني الجمل - من خيفة الكرب عليه، إنما ذلك لإفراء جنبيه. ولا ربطت أم الكيك فلبك لها أجود نقي، شفقة عليها من عيش شقي، ولا توديعًا لرجلها من ذهبا ومجي، ولا أحمى لها وطيس القوم لتدفأ به من قر الشتاء؛ وإنما غر الطائر بحبة ملتقطة لتصبر عنقه في السطة. وليس من رهبة المآثم على العترفان جمع له سبع من الحلائل أو ثمان؛ واسأل خلط الجرار لم عطف على ابن المعزة ظئران. لو دري ضب العرارة ما الذي قصد بثمرات يطرحن له عند الأمرات، لأقسم أه لا يذوق ثمرًا حيرى الدهر. وليس من خوف الجوع على السمكة جعل لها طعم في الشبكة. وإنما أوثر المهر بصبوح وغبوق، ليفيء على أهله كرائم النوق. وقل ما جاءك إحسان ساعفك به الإنسان إلا وهو يأمل جزاء عليه أكثر مما نالك منه وأسر. جاد ناسك بالبرة ليسمح له بملء الجرة. وتتبع الراعي بالصبة أنيق الكلإ فأمعن طلبًا، لترويه بعد حلبًا. وأضاف الرجل مضيف لأمرين: إما لثناء يكتسبه، وإما دفعًا لمذمة تجدبه. على أنه لا تخلوا البسيطة من قوم يكرمون بالطبع وينفعون العالم لغير نفع.
ثم أعود إلى ذكر الثور: فلما شرج لحم أبي المزاحم بالني، أبرز إلى سوق عامر فدعى له الفعفعاني فأمر الصلت على مريه، واقتسم اللحم غني وفقير، واقتدروه على مقدار الشهوات، ونسيت الصحبة وقديم العهد، وما لقيه من طول نصب وجهد.
وأما بنات بعرة وبنات خورة، فحسبك بما لقين: كم أشكل ابن آدم الثائجة على قرير، فباتت عينها ضد قريرة من غير جريرة؛ وكم روع بذات الحزأة من أم منحلان، وليس في سر النفس لكن صرح به في العلان! واحتذى أدمة هذه الأجناس فوطيء بها أمعز حزيزًا، واتخذ من جليمها دفئًا في الشبم حريزًا! وكم غرب صنع منها وسلم، وصفن للسفر دائم الحزم.
ولم يكفه ما فعل في البهائم الأهلية حتى عمد للوحش الباهلة. يا نار، أما يقتصر شرارك على أن يحترق به جارك، حتى يسافر إلى أبعد؛ ما أعظم أذاتكّ لولا ضوء لك ظهر في العنك لا نتقم خالقك منك. ماله وللثور الوحشي، ملمع الرأس بالجدد موشى! بات ليلة على العراء بعد ما رتع نهاره في الثداء، وبات المطر يبله ويصرده، ينشر عليه الفطر وبرده، وأمنيته المبتغاة الملتمسة عند الله أن يضح له ضياء الصبح. قد احتفر عند أرطاة وسدرة. يكاد ينطق بشكوى القرة. حتى إذا أعقب ذنب السرحان صديع. وظهر فأوضح من الفجر بديع، رمق بعينيه الغيوب ولا يرهب هنالك السيوب، فبدا له موسد كلاب هو طول الأبد للقنص في طلاب. فراع الشبب ما رآه من ضوار تبتدر مقلدات، يجرين في الجشع على العادات. ففزع فزعًا بالطبع، وانصرف عن ذلك الربع. يقطع رمالًا بعد رمال، والسلامة له أقصى الآمال. وغريت به ذوات العذب معذبات، مسرعات في الطلق مهذبات، يأخذن بنساه والساق، وهو بنطفة الأسلة من حمام وساق. فأدركته عند ذلك حمية الغضب، فانعطف بإقدام غير المقتضب. يذود البائس برمحين، ما نزل به من الحين. فوهب الله له النصر فانتظم بروقيه خائفة، وبإهابه منهن كلوم؛ أظالم الشبب أم مظلوم؟ لقد رمى بزول نكر، لا يزال منه حتى يهلك على ذكر، فهو يرقب طلوعها في كل غداة ويعتقد لها أشنأ معاداة. ويحدث نفسه بالهرب من أرض إلى أرض، وأين المعقل من التلف وهو كالفرض؟ فما يفتأ مروعًا من الصبح، يعد حسن الفجر من القبح.
وأما الأرطي، فدينها في ذلك على دين الأخنس، وهي في العناء المنصب من الأنس. يفعل بها ما فعل بالذيال، ولا يشفق على ظلًا من إعيال فلا تأمن هي وحلها الشبوب، نبلًا ربها للصيد ربوب. وقد أكثرت الشعراء في ذلك فقال " أبو ذؤيب ":
والدهرُ لا يبقى على حَدَثانِه ... شَبَبٌ أَفَزَّتْه الكلابُ مُروَّعُ
شغَبَ الكلابُ الضارياتُ فؤادَه ... فإِذا يرى الصبحَ المصَدَّق يفزع
ويَعوذُ بالأَرْطَى إِذا ما شَفَّه ... قَطْرٌ، وراحتْه بَلِيلٌ زَعْزَعُ
فغَدا يُشرِّقُ مَتْنَه فبدا له ... أُولى سوابِقِها قريبًا توزَعُ
فانصاع من فَرَقٍ وسدَّ فروجَه ... غَضْفٌ ضَوَارٍ: وافِيان وأَجْدَعُ
1 / 11