وأيضًا فما كان يمكننا أن نتخيل متى شئنا بل كنا نكون في تخيل دائم، وبالجملة كان يكون التخيل لنا من الأمور الضرورية كالحال في المحسوسات، وإذا كان ذلك كذلك فليس السبب إذن في تخيلها وقتًا بعد وقت إلا أنا متى شئنا نظرنا بهذه القوة إلى الآثار الباقية في الحس المشترك ولذلك كان فعل هذه القوة يجود بالسكون ويختل مع حضور المحسوسات، وذلك أن الحس المشترك عندما تحضره المحسوسات بالفعل هو عنها أكثر ذلك متحرك فقط، فإذا غابت عنه عاد هو محرك هذه القوة بالآثار الباقية فيه من المحسوسات، ولذلك كان فعل هذه القوة مع النوم أكثر، فالمحسوسات إذا تحرك الحس المشترك والآثار الحاصلة عنها في الحس المشترك تحرك هذه القوة، أعني قوة التخيل على مثال ما تتحرك الأشياء بعضها عن بعض. إلا أن لهذه القوة في تلك الآثار تركيبًا وتفصيلًا، ولذلك كانت فاعلة بوجه منفعلة بآخر.
ومن هنا يظهر أن هذه القوة كما قلنا اكثر روحانية من الحس لكنها مع ذلك من جنس الحس، إذ كان المحرك لها شخصيًا والقابل إنما يقبل شبيه ما يعطيه المحرك، والمحرك إنما يعطي شبيه ما في جوهره، وأما المتحرك الذي يوجد عنه الكلي فهو أرفع رتبة من هذا، إذ كان تحريكه غير متناه على ما سنبين بعد.
فأما أن هذه القوة من قوى النفس كائنة فاسدة فهو بين من أنها توجد بالقوة أولًا ثم توجد بالفعل، والقوة كما قلنا غير ما مرة هي أخص أسباب الحدوث، والحادث كما قيل فاسد ضرورة.
وأيضًا فإن استكمالها إنما هو بالآثار الباقية في الحس المشترك عن المحسوسات، وهذه الآثار ضرورة حادثة عن المحسوسات فهي إذن حادثة.
وأيضًا فإن الاستعداد الأول لهذه القوة هو موجود كما قلنا في النفس الغاذية بتوسط الاستكمال الأول للحس، وكلاهما حادثان فالاستكمال الأول إذن لهذه القوة حادث.
فقد تبين من هذا القول وجود هذه الآثار وأي هيولى هيولاها؟ وما مرتبتها؟ وما المحرك لها؟ وتبين مع هذا من أمرها أنها كائنة فاسدة. فأما لم وجدت هذه القوة في الحيوان فذلك من أجل الشوق الذي يكون عنها إذا اقترن إلى هذه القوة الحركة في المكان، وذلك أن بقوة التخيل مقترنًا بها الشوق يتحرك الحيوان إلى طلب الملذ وينفر عن الضار، وسنتكلم في هذا على التفصيل عند القول في القوة المحرك للحيوان.
وإذ قد فرغنا من القول في هذه القوة فلنقل في القوة الناطقة، إذ كانت هي التي يظهر من أمرها أنها تلي هذه القوة في المرتبة، وذلك أن الحيوان ليس يمكن أن توجد فيه قوة أرفع من هذه، أعني المتخيلة إلا في الإنسان هي القوة الناطقة.
القول في القوة الناطقة
إنه لما كان العلم بالشيء كما قيل في غير ما موضع إنما يحصل على التمام بأن يتقدم أولًا فيعلم وجود الشيء إن لم يكن بينًا بنفسه ثم يطلب تفهم جوهره وماهيته بالأشياء التي بها قوامه، ثم يطلب بعد ذلك معرفة الأمور التي قوامها بذلك الشيء، وهي اللواحق الذاتية له والأعراض، فقد ينبغي أن نفحص من هذه الأشياء بأعيانها في هذه القوة، فنبتدئ أولًا فنرشد إلى الجهة التي توقع اليقين بوجود هذه القوة ومباينتها لسائر القوى التي تقدمت، ثمٍ نفحص من أمرها هل هي تارة قوة؟ وتارة فعل؟ أم هي فعل دائما على ما يرى كثير من الناس، وأنها إنما تتعطل أفعالها في الصبي لأنها مغمورة بالرطوبة أم بعضها قوة وبعضها فعل. فإن هذا اسم شيء يفحص عنه من أمرها وهو المعنى الذي فيه اختلف القدماء كثيرًا.
ومن هاهنا توقف على ما هو اكثر ذلك متشوق من أمرها، أعني هل هي أزلية؟ أم حادثة فاسدة؟ أم هي مركبة من شيء أزلي وحادث؟ وأن كانت تارة قوة وتارة فعلًا فهي ذات هيولى ضرورة، فما هذه الهيولى؟ وما مرتبتها؟ وما الموضوع لهذا الاستعداد والقوة؟ فإن القوة مما لا يفارق، وهل ذلك جسم أو نفس أو عقل؟ وأيضًا ما المحرك لهذه القوة؟ والمخرج لها إلى الفعل؟ وإلى أي مقدار من التحريك ينتهي إليه بالذات؟ فعلى هذا المحرك فيها فإن بذلك نقف على كمالها الأقصى، فإنه من الظاهر أنها ليست فينا هذه القوة أولًا معشر الناس على كمالها الأخير وأنها في تزيد دائم، لكن ليس يمكن أن يمر الأمر فيها إلى غير نهاية. فإن الطباع تأبى ذلك فهذه هي جميع المطالب التي ينبغي أن نفحص عنها من أمر هذه القوة، فإن بمعرفتها تحصل لنا معرفتها على التمام.
1 / 19