يتحتم علينا قبل الدخول في الموضوع أن نحدد ما نعنيه بكلمة فلسفة ثم ما نعنيه بكلمة أخلاق، أما الفلسفة: فهي ذلك الشيء الذي يضع الخطوط العريضة للتجارب الإنسانية، ومنذ القدم عرف أن هناك طبقة فوق الفلسفة هي طبقة الدين، وطبقة تحتها هي طبقة العلم. والدين كما هو معروف قائم على الحقائق التي لا تناقش، أما الفلسفة فشرح الحقائق البعيدة للحقائق الظاهرة، أما العلم فتطبيق عملي لهذه الشروح والتعليقات، ومن يستعرض مراحل الفكر على الأجيال يتضح له أن الدين يتكئ على الفلسفة، والفلسفة تتكئ على العلم، وأن الفلسفة إذا عجزت تطلعت إلى الدين ، وأن العلم إذا وصل إلى أزمة تطلع إلى الفلسفة طالبا منها المعونة.
أما الأخلاق فكلمة غامضة، تناولها الدين فجعل لها معنى، وتناولها العلم فجعل لها معنى، وتناولتها الفلسفة فجعلت لها معنى آخر.
أما من ناحية الدين فالأخلاق الطيبة هي التي تتفق وتعاليم الدين بغير مراعاة للظروف والبيئات والأجيال والتغيرات الاقتصادية أو العمرانية، ولا شك أن الديانات تضع المناهج العامة التي بمقتضاها يتحقق صلاح العالم، ولكن العقائد التي لا تناقش صار موقفها حرجا في العالم المتطور الذي أصبح كل من فيه صاحب رأي، وكل صاحب رأي مغرما بالجدل والمناقشة، والواقع أن أكثرنا يؤمن بتعاليم الدين وقل من يمارسها اليوم ممارسة مخلصة.
وما أصدق قول «برجسون» الفيلسوف: إن التقاليد والعادات هي الأخلاق، ولما كانت الديانات تنهى عن الخروج على المألوف فالتقاليد والعادات تتفق مع النصوص الدينية.
وفي القانون الهندي القديم «المانو» جاء ما يأتي: «إن التقاليد المتوارثة جيلا عن جيل خلال الأجيال، إنما هي عماد الأخلاق الفاضلة»، ومهما يكن في هذا الأمر من الصواب من حيث إن التقاليد هي خلاصة التجارب الماضية، أو هي في عبارة أخرى: «غربلة الماضي»، فهي لا تصلح لأن تكون قانونا عاما.
إذن فكلمة «أخلاق» أو رجل عنده أخلاق تعني: العرف السائد «ذلك الذي لا ينحرف عن الأصول»، ونحن في حياتنا العامة نعتبر كل من يخرج على العرف سيئ الأخلاق، أما ما هي هذه الأصول بالضبط؟ أو ما هو هذا العرف؟ فهو هذا الذي ترك الأفهام حائرة.
فسيقول لك رجل الدين «عليك بالقرآن والأحاديث» وسيقول لك رجل الفلسفة «عليك بأرسطو أو أفلاطون»، وسيقول لك عالم النفس «هو في التوازن النفسي»، وسيقول لك عالم الاجتماع: «هو فيما يوائم بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع»، ولقد فرق الفيلسوف «دورانت» بين التقاليد والأخلاق، فقال: إن التقاليد هي عادات نطبقها ولا نعظ بها، والأخلاق هي عادات نعظ بها ولا نطبقها.
أما موقف الدين من هذه المسألة أعني مسألة المعتقدات الثابتة في العالم المضطرب المتغير، فلا يمكن أن يوصف أو يحدد بأدق مما حدده «بوذا» لتلاميذه منذ القدم، فقد ذهب إليه سكان «كالاما» وقالوا له: «إن بعض البراهمة والنساك يجيئون إلينا بمختلف المذاهب حتى عدنا لا نعرف ماذا نصدق.»
فأجاب: «الشك مفيد لكم، والاعتقاد الأعمى ضار بكم، لا تحكموا بالتقاليد ولا تطيعوا الكتب المقدسة بدون فهم، ولا تتقيدوا بحجج المنطق، ولا تؤمنوا إيمانا أعمى بحواسكم، ولا بالأفكار القديمة، ولا حب المظاهر، ولا تجروا وراء معلم أو ناسك، ولكن ليكن حكمكم كما ترون أنتم، فإذا تبين لكم أن هذا الشيء ضار أو غير لائق، أو أنه يحدث النكد والشقاء لنا ولغيرنا فتجنبوه، وإذا كان الشيء لائقا أو صالحا، وإنه يسعدنا ويسعد غيرنا فاتبعوه.»
ذلك هو القانون، وهذه هي الأخلاق.
Página desconocida