قال «كيتس»: «إن الشاعر أقل الناس شاعرية»، يعني بذلك أنه مرآة تلتقط كل شيء تصادفه، إنها تشرب هذه الشخصية وتندمج في تلك حتى تتلاشى شخصية الشاعر الأصيلة؛ لأنها امتصت كل هؤلاء، وتفسيرا لهذا نضرب مثلا له على أتمه في «توفيق الحكيم» و«بيرم التونسي»، فإنهما يجلسان في مجلس السمر صامتين لا يتكلمان، فإذا انفض المجلس يمكنك أن تستخرج من عقليهما فلما كاملا لما كان وما حدث في أتم صورة وأجلاها، لقد امتصا كل شخصية واستوعبا كل كلمة، فإذا جلس «توفيق الحكيم» ليكتب عكس كل هذا في قصصه عكسا صادقا عجيبا، وإذا جلس «بيرم» ليؤلف زجلا وجدت هذه الصور مطابقة للأصل مطابقة مدهشة
true to type .
هذه الصفة الشاعرية كانت من مميزات «شكسبير» الأولى، والظاهر أنه كان من الطراز الصامت المستوعب؛ لأننا لا نعرف من تفاصيل حياته الخاصة كثيرا، ولكننا نعرف أنه عرض كل شخصية ممكنة في السجل الآدمي عرضا صادقا جبارا.
إن القصة كما ترون تطورت من السرد المحض إلى السرد المختار، كما هي عند «جين أوستن» و«فيلدنج»، إلى السرد المختار الجيد الترتيب، كما هي في فجر القصة العربية الحديثة، ثم إلى القصة التي لها «شكل» و«جوهر»، وقد تكون هذا الشكل والجوهر في العصر الحديث، العصر المادي من «الواقع»، فالمادية فيه تساوي الواقعية والعكس بالعكس، وتناول علم النفس هذه المادية الواقعية بالتحليل والشرح، حتى صارت القصة أشبه بالجثة تحت مبضع التشريح، وحتى ضاع المذاق الفني للقصة.
تسألونني: وما هو المذاق الفني؟
فأقول: إن القصة كلما تطورت ماشت العصر، حتى أصبحت شغل عقل
Clever Brain Work ، وكلما زاد عمل العقل في الأدب ارتفع إلى برج منعزل، وغمسته أرستقراطية ذهنية خاصة، وصارت عينه ترى في المجتمع فروقا وطبقات.
فإذا انتقلنا إلى الفن الروسي عند «دستويفلسكي» و«تشيكوف» وجدنا الوثبة التي كنا نتمناها، وجدنا العقل قد أسلم زمامه للروح، فصارت القصة لا وصفا لتفاعل الغريزة مع ما حولها ولا لتفاعل العقل، وإنما وصفا لومضات الروح، وصفا للأعماق الهائلة التي تسبح فيها الروح البشرية، وما دامت الروح البشرية واحدة، فمن هنا تنمحي الفواصل بين الطبقات. هناك روح واحدة تسر وتتألم، تسخط وترضى، تحب وتبغض، تسف وترتفع، ترسف في القيود أو تطلب الحرية، هناك أعماق واحدة متشابهة.
وصعوبة الفن الروسي هي في أن الذي يحلل الروح البشرية روح مثلها تفهمها وتدرك آلامها وعذابها وحيرتها، الفن الروسي روح حساسة تخاطب روحا حساسة، عذاب يخاطب عذابا، آلام تخاطب آلاما، آمال تناجي آمالا، الفن الروسي اعترافات، اعترافات متوالية، ولذلك خلا من مبدأ ونهاية، إن عالم الروح غامض فسيح، وكذلك القصة في الفن الروسي، فقد تنزل الستار والناس يتحدثون، لم يفرغوا بعد من الحديث.
إن الفن الروسي على حد تعبير «وارنر»: «يقبض على الأبدية في كف، وفي لمحة.»
Página desconocida