فقال المهلبي: ما احسب أنهّ قيل في النحول أحسن من هذا، فقلت: بلى، المجنون:
فلوْ أنّ ما أبقيتِ منيُّ معَلَقُ ... بعودِ ثمامٍ ما تأوّدَ عُودُها
وما أساء كثير في قوله:
حمَلْت عَليها ما لوَ أنّ حَمامةً ... تحملهُ طارَتْ به في القفاقِفِ
قُطُوعًا وأنساعًا وأعظمُ ناحلٍ ... أضربهِ طولُ الهوىَ والمخارِفِ
وقلت: وتقدم الناس قول عمر بن أبي ربيعة:
قليلُ على ظَهرِ المطيّةِ ظلهُ ... سوىَ ما نفى عنهُ الًرداءُ الُمحبر
ويستحسن قولُ ابن الدُمينة:
عظامُ بَراها الشوْقُ حتى كأنها ... محَاجنُ نَبعٍ ليسَ فيهنّ منزعُ
فلا هنّ بالموتىَ ولا ينبعثنَ بي ... ولا طائر مماّ عليهنّ يشبَعُ
وقال بشار:
بينَ ثيابي جَسدٌ ناحلٌ ... لوْ هبّتِ الّريحُ بهِ طاحاَ
وقال أيضًا:
إن في ثوْبي جسمًا ناحلًا ... لوْ توكّأتِ عليهِ لانهَدمْ
فأعجب هذا أبا محمد إعجابًا شديدًا، فقال: ما كنت أحسب أن أحدًا سبق أبا الطيب إلى معنى بينه المتقدم، ولا زاد على إحسانه في وصف نحوله. ما تصنع بيته وهو مسوق على أنبأت الوزير به، وكل واحد من هؤلاء في هذا معنى لم يشركه فيه غيره. فقال الأنباري: فإن كان سبق إلى المعاني فيما ذكرناه، فل يسبق إلى قوله:
) وزائرِي كأن بها حياءً ... فليسَ تزُورُ إلا في المنَامِ (
) بذلتُ لها المَطارِفَ والحشَايا ... فَعافَتها وباتَتُ في عِظامي (
) إذا ما فارقَتُني غسلتني ... كأنا عاكفِان على حَرامِ
فقلت له: حالهُ في هذا أسوأ منها فيما تقدم، فإنه أعتمد على قولُ ابن القعقاع:
وزائرةٍ بلا عدِة أتتني ... فَحَلتُ بين جسمي والفُؤاد
سِنَانُ للمنَايا إن تَراءت ... فنفسي والمنايا في طرِادِ
كأن جوَارِحي إذ فارقَتَني ... عُيون تَستَمد من الغَوادي
وقلت: وقد أحلت في قولك:
) إذ ما فارَقتني غَسلتني ... كأنا عاكفِانِ على حرَامِ (
والحلال أولى بالغسل وأخص من الحرام، فكيف خصصت الحرام بوصف يشركه فيه غيره، وله به اختصاص فوق اختصاصه. فقال أبو الطيب: أتيت بأحدهما فدل على الآخر وإن لم أذكره. وفي القرآن:) سَرَابيِل تقَيكمُ الحَرَ (وهي تقي البرد، وقد قال الشاعر:
فَلا تعدي موَاعِدَ كاذِباتٍ ... نهَب بها رِياحُ الصيفِ دوني
يريد ورياح الشتاء. فلما صدع بالحجة صدع الصباح رداء الظلام، وتخوفت أن يوهم الوزير أبا محمد أنه لا علم لي بما ذكره، قلت: أجل لكن قولك يبعد بعض البعد عن هذا، وإن كنت تحذو حذوه. من أجل أن الحلال أشد اختصاصًا بالغسل من الحرام، وليست السرابيل بأخص في وقاية الحر منها في وقاية البرد، ولا رياح الشتاء بأخص في هبوبها دون المواعد من رياح الصيف. وعلى أن بعض أصحابنا ذكر أنه خص رياح الصيف، لأنها أشد تعفية. فأعجب المهلبي هذا الاعتراض. قلت ومثل الآية قول الآخر:
وما أدري إذ يَممت وجهًا ... أريدُ الخَيَر أيهمُا يلَيني
فقال: " أيهما " إنما ذكر وأحدًا، لأنه دل على الثاني، ثم تلا ذلك بأن قال:
أألخَيرُ الذي أنا أبتَغيهِ ... أمِ الشرُ الذي هو يبَتغني
وقد تكلم أصحاب المعاني في قول أوس بن حجر:
وغَيرَها عَن وصلنِا الشيب إنهُ ... شَفيعُ إلى البيضِ الحسانِ مجربُ
فقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الهاء في " إنه " عائدة على الشباب، وجاز ذلك وإن لم يذكره، لأن الشيب دال، هذا قولُ ابن الأعرابي، وقال الأصمعي: يريد أنه كبر فأنست به. فقال أبو الطيب: لله درك فإن أحسن القول ما نطق به لسانك. فقال الأنباري: قد قال:
) أرىَ ذلك القرْبَ صارَ ازوراراَ ... وصارَ طويلُ السّلامِ اختصاراَ (
) ترَكْتنَيَ اليوْمَ في حَيرةٍ ... أموتُ مرارًا وأحْبا مراراَ (
) فلوْ النّاسُ من دَهرِهمْ ... لكانوا الظلامّ وكُنت النهاراَ (
وقال:
) أسِيرُ إلى إقْطاعِهِ في ثيِابِهِ ... على طرِفْهِ من دارِه بحِسامه (
وقال:
) إلامَ طَماعِيةُ العاذِلِ ... ولا رَأيَ في الحُسب للعاقلِ (
) يُرادُ مِنَ القلَبِ نسيانُكمْ ... وتأبَني الطُباعُ على الناُقِلِ (
فأنشد أبياتًا كان منها:
1 / 37