وإنما ذهب إلى أن السير أنضى جرومها وتخون نيها. وذهبت إلى تشبيهها بالمزاد المشنشنة فلم تستطع استيفاء التشبيه، وقصرت بك المادة، فاقتصرت على ذكر المزاد، وليس كل مزادة بالية ولا مشنشنة وإنما نظرت إلى قول الراجز:
كأنما والشرَْكَ كالشَنانِ ... تميسُ في حُلةٍ أرْجوانِ
والشنان القرب اليابسة، وهذا تشبيه صحيح، وبيتك الذي استرقته منه فاسد سقيم. ولو أوردت الصفة لدلت على الموصوف. فأما أن تورد الاسم الذي تعتوره الصفات المتغايرة، فإنه لا يدل بذكر مجردًا على ما ذهبت إليه من صفته. ألا ترى إلى قول أبي النجم يصف إبلًا:
تمْشي من الرًدًةِ مشْي الحفلِ ... مَشْيَ الرّوايا بالمزادِ المثُقلِ
فلم يقتصر على ذكر المزاد حتى وصف بصفة حاله أخرجت التشبيه عن هجنة الافتراق. ثم قلت: وفي هذه الكلمات تقول:
) تَهَلُل قَبل تسَليمي علَيْهِ ... وألقَى قَبلَ الوِساَدِ (
وأحسب الأول قفا أثرك في هذا المعنى فقال:
مِرارًا ما دنَوْتُ إلَيهِ إلاَ ... تبسًم ضاحكًِا وثَنى الوِساَداَ
ومن أبكار معانيك فيها قولك:
) فظَنوني مَدَحُتُهُمُ قدَيمًا ... وأنتَ بما مَدحتُهُمُ مُرادي (
وكأن أبا نؤاس سمع هذا فقال:
وإنْ جرَتِ الألفاظُ بمدِحَةٍ ... لغَيرِكَ إنسانًا الذي نَعني
على أن كثيرًا بن عبد الرحمن قد قال:
متى ما أقلْ في آخر الدهرِ مِدْحَةً ... فما هي إلاُ لابنِ لَيلي المُكَرُمِ
ثم قلت: وفي هذه الكلمة تقول، فتطول وتفخر وتصول وتوهم أن المعنى غير مقول:
) كأنَ الهَامَ في الهَيْجا عُيُون ... وقد طُبِعتْ سُيوفُك من رقُادِ (
) وقد ضُعتَ الأنسُةَ من هُمومٍ ... فما يَخطُرْن إلاُ في فُوادِ (
فسبحان من ذلك أعناق الكلام لك، ووطأ كواهله وجمع شتيته، وقاد لك المعاني بازمتها، حتى اخترعت منها ما قصرت عنه خواطر من تقدمك من فرسان الشعر وأمراء النظم والنثر. وهذان البيتان هما من قول بعض الشاميين:
تَخَيل الَهامَ أحداقًا صوَارمهُ ... ما بيَنَ أجفانِها صيغتْ منَ الوَسنِ
تعَلو عَواملَ قد سًددن من وجل ... يسَلكْنَ بالطّعن منهُ مسلك الفطنِ
فقال بعض من حضر، وأحسبه أبا علي الحسين بن محمد الأنباري، وكان ضلعه معه هذان البيتان مفتعلان مصنوعان لا يعرف قائلهما. قلت: فاصنع أنت مثلهما ودعهما، قد أخذ البيت الأول من بيتيه من قول منصور النمري:
ذكرُ بروْنَقَهِ الّدماءُ كأنّما ... يعلوُ الرّجال بأرْجونٍ فاقعِ
وكأنّما خَدَرُْ الحُسامِ بهامهِ ... خدَرُ المنيةِ أوْ نعُاسُ الهاجعِ
وأماّ قوله:) وقد صُغْت الأسنةّ (إلى آخره، فمن قول البحتري يصف ذئبًا وهو من أحسن ما قيل:
وأطْلسَ ملء العَينِ يقَسمُ زَوْرَه ... وأضلاعَهُ من جانبيهِ شوى نهدُ
طَواهُ الطوًىَ حتى استَمرّ مريرُهُ ... فما فيهِ إلاّ العظْمُ والروّح والجلْدُ
سماَ لي وبي من شدّةِ الجُوعِ ما به ... ببيداء لم تحُسسْ بها عيشَةُ رَغْدُ
فأوْجَرْتهُ خرَقْاءَ تَحسبُ ريشَها ... على كوكبٍ ينقصّ والليلُ مسودُ
وأتبعتهاُ أخرىَ فأضلْتُ نصلهاَ ... بحيثُ يكونُ اللبُ والرّعبُ والحقدُ
والبحتري أخذ هذا من قول أبي تمام:
من كلّ أزْرَقَ نظارٍ بلاِ نظرٍ ... إلى المقاتلِ ما في عوُدِهِ أوَدُ
كأنه كانَ ترْبَ الحُبً مذْ زَمنٍ ... فليسَ يعُجزهُ قلبُ ولا كَبدُ
أخذه من قول عمرو بن معدي كرب:
والضّاربينَ بكُلّ أبيضَ صارِمٍ ... والطاعنينَ مجاَمعَ الأضغانِ
فقال أبو الطيب: من أبو تمام والبحتري؟ ما أعلم أني سمعت بذكرهما إلا من هذه الحاضرة. فقلت: أبو تمام والبحتري اللذان اختلبت ألفاظهما، واستلحقت معانيهما، ووقعت دونهما وقوع السهم المقصر عن رميته.
ثم قلت: وأخطأت في قولك:
) غضبتْ لهُ لما رأيتُ صفِاتهِ ... بلا واصفٍ والشعرُ تهذي طماَطمه (
ومن أجل أن الهذيان كلام المهتر والعليل، ومن به طيف جنة. والهاذي والهذاءة من الأوصاف المذموتة كما قال الأول:
هذرْيان هذر هذاءة ... موشكُ السًقطةِ ذو لبٍ نثْرِ
1 / 31