قال: وما وجه الخطاء؟ قلت إنك جعلته يخيلًا لا يوصل إلى شيء من جهته. وشبهت نفسك في وصولك إلى ما وصلت إليه منه بشربك من ماء يعجز الطير ورده، لبعد مشربه وترامي مطلبه. وأخطأت في قولك مضللًا:
) فلُينَ كل وردنيةٍ ... ومصَبوحَةٍ لَبَنَ الشُائلِ (
والشائل: هي التي شال لبنها من النوق. ارتفع. وجمع الشائل: شول، وهي القليلة اللبن من النوق وقد شولت: إذا قل لبنها. فكيف خصصتها بلبن الشائل مع قلته وارتفاعه. وكان الأولى أن تجعلها غزيرة لا بكيئة، كما قال مطير بن الأشيم وكان وصافًا للخيل:
قَصَرْتُ لها أرْبعًا جلِةً ... وأكتبت حافرَها أن يَرٌوداَ
وقلتُ لقَيمعِا رَوها ... صَوِيحًا ولا تَسْأ منْ أنْ تَزيدا
فلم يرضه أن يقصر عليها واحدة حتى ذكر أربعًا لصنعها. وأنت لما اقتصرت بها على واحدة جعلتها شلائلًا. فقال: إنما أردت تؤثر باللبن مع قلته وارتفاعه على العيال لعتقها وكرمها. فقلت: وأنت إذا أردت ذلك وذهبت إليه تخبر عن اللزبة والشدة وانقطاع الألبان، وهذا مقصر بالفرس مع إيثارها وناقض من صنعها ومخل بقوتها، وأحمد منه مطير وأدل على حسن الصنع. ويقال ناقة شائلة وشائل أيضًا وجمعها شول وشائلة للتي شالت يذنبها، ليعلم أنها لا قح وجمعها شول قال أبو النجم:
كأن في أذنابهِنُ الشُولِ ... من عبَسِ الصُيفِ قرونَ الأيلِ
ثم قلت: وأخطأت في الكلمة التي أولها:
) كد عواك كل يدعي صحة العقل (
بأن قلت:
) تُمِرِ الأنابيتُ الخَواطرُ بَينَنَا ... وتذَكُرُ إقبالَ الأمير فتحلَوْ لي (
فإنك أتيت ببيت مردف في قصيدة غير مردفة، وهذا شاذ. فقال: هذا وإن كان شاذا كما ذكرت، فإنه عذب على اللسان غير قلق في الإشادة، وقد جاء مثله للعرب:
وبالطوْفِ نالا خيرَ ما نالهَ الفتى ... وما المرْءُ إلاَ بالتقلُبِ والطُوْفِ
ثم قال:
فرِاقٌ حبَيبِ وانتهاء عنِ الهوَى ... فلا تعَذَليني قد بَدا لكِ ما أخفْي
فقلت: لعمري إن قومًا لا علم لهم يرون هذا شاذًا، ولا يرون الواو المفتوح ما قبلها ولا الياء شاذًا ردفًا، يزعمون أنهما ليسا بحر في مد، لأن الصوت لا تمتد بهما كامتداده بالياء والواو المكسور والمضموم ما قبلهما. وذلك غلط من قائله إذ فتح ما قبلهما عن جنسهما إذا كانت مخرجهما في الحالين من مكان واحد من الفم، فصورتهما في اللفظ واحدة وإنما الفتحة تنقلهما قليلًا، فلا يمتد الصوت بها كل الامتداد، ولكنه يمتد امتدادًا يسحقان به أن يسميا حرفي مد. فإذا جاء للعرب بيت فيه ردف مع ما لا ردف فيه معًا واعتد شاذًا، كما لهم الإقواء والإكفاء والإيطاء، فليس لمحدث أن يرتكب مثل ذلك، ولا يسمح في قوافيه بشيء من المعائب، وإن كانت موجودة في أشعارهم على طريق الشواذ. ألا ترى إلى قول ابن بيض يخاطب خالدًا القسري وكان حبسه:
شاحِبُ باطِنٌ كصَدرِ يمَانٍ ... صارِمِ الوَقع لُف في غيرِ جفَنِ
ومتى تَم عادَ عصَبًا حُسامًا ... وجَلا شَفرتَيِه حد المِسَن
لم يكُنْ جناِيَةٍ لحقَني ... عن يسَاري ولا جنَتها يميني
بلْ جنَاها أخْ وخِل كَريمُ ... وعلى أهلها بَراقِش تَجسْني
أفيجوز لمحدث أن يأتي بمثل هذا ويحتج به أو بمثله؟ كلا. فقال: قد أكثرت القول فيما لا أعتد بشيء منه، وإنما أجري على طبعي، وأقول ما يسوغه لساني. ومما يتعلق به عليه في التقفية قوله:
) أنا بالوٌشاةِ إذا ذكرَتٌكَ أشبَهٌ ... تأتي النُدىَ ويذاعُ عنَكَ فتَكْرهُ (
) وإذا رأيتُك دونَ عِرضٍْ عارِضًا ... أيقَنْتُ أن الله يبَغي نصَره (
ما حرف الروي في هذين البيتين؟ قال: الهاء. فقلت له: فإن جعلت الهاء حرف الروي لم يجز ذلك. لأن هاء الضمير لا يكون رويًا، إلا إذا سكن ما قبلها كقول طرفة: ألا يا أيها الظبي الذي يبُرِقُ شَنْفاهٌ
ولولا الملًكٌَ القاعدِ ... قد ألشَمَني فاهُ
1 / 23