لكان محسنًا؛ لأن كل صنف من صنوف القول يقضي نوعًا من أنواع الابتداء وضربًا من ضروب الاستفتاح لا يصلح لغيره. وقد قال أبو سعيد لما أنشده: " لك الويل من ليل " بل لك الويل والحرب. فينبغي للمادح المستميح أن يفتتح شعره بما يكون دالًا على غرضه ومشيرًا إلى مراده. وألا يشوبه بما يتطير منه ويستجفي في كلامه: كنغي الشباب، وتفرق الأحباب، وذم الزمان، وتقطع الأقران، وذكر الموحش من الأطلال والرسوم العافية البوالي. فقد قيل إن الأسود بن المنذر لما أنشده الأعشى:
ما بسُكاء الكبيَرِ بالأطْلالِ ... وسؤالي فمال يَرُدُ سُؤالي
ذم هذا الافتتاح وكرهه. وبلغنا عن خلفاء بني مروان أنه استنشد ذا الرمة شيئًا فأنشده:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
فرد فيه وأسكته. وأنشد الجعدي بعض الملوك قصيدته التي يقول فيها:
لَبسِْت أناسًا فأفْنَيُهُمْ ... وأفنَيتُ بعدَ أناسٍ أناساَ
فقال: ذاك لفرط شؤمك. واستنشد أبو دلف بن عيسى راشد بن إسحاق الكتاب بعض ما رثى به متاعه فأنشده:
ألا ذهب الأير الذي كنت تعرف
فغضت أبو دلف وقال: بل أمك كانت تعرفه. ولما أنشد الأخطل عبد الملك:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
فقال: بل منك، تطيرًا بذلك. وهذه كانت حال جرير معه لما أنشد
أتصحو بل فؤادك غير صاحي
فإنه رد فيه وقال بل فؤادك. ثم قلت: وأخطأت في قولك:
) أليسَ عَجيبًا أنُ وَصفَكَ معُجِزٌ ... وأنً ظٌنوني في معَاليكَ تَظلَعُ (
فاستعرت الظلم لظنونك، وهي استعارة قبيحة، وتعجبت في غير متعجب منه، لأن من أعجز وصفه لم يستنكر قصور الظنون وتحرها في معاليه. وإنما نقلته من قيل أبي تمام فأفسدته:
رَقت منُاه طَوْدَ عزَ لوِ ارْتَقَتْ ... بهِ الرُيحُ فترًا لانشنَتْ وهي ظالعُ
وقد قال مخلد يصف برية:
سماوية تستَنزِل الرًيحُ جودهَا ... وتظلَم فيها الرًيح في واضحِ السُبلِ
فقال: إنما جريت على عادة العرب في الاستعمار. فقلت: أجل إلا أنها استعمار مستهجنة قلقة حلت في غير محلها، ووقعت في غير موقعها.
والاستعارة إذا لم يكن موقعها في البيان فوق موقع الحقيقة، لم تكن استعارة لطيفة. وحقيقة الاستعمار أنها نقل كلمة من شيء قد جعلت له، إلى شيء لم تجعل له. وهي على ثلاثة أضرب أفتعرفها؟ فقال: ما لي لهذا؟ قلت: فأنا أذكرها ضرورة، لأبين أنك بمعزل عن الإحسان في قولك:
) فإن ظنوني في معاليك تظلع (
فأولها: الاستعمار المستحسنة وهي التي موقعها في البيان فوق موقع الحقيقة كقول الله تعالى) إنا لما طغا الماء (فحقيقة طغا علا. فلما قال تعالى طغا جعله علوًا مفرطًا، فصار لهذه الاستعمار حظ في البيان لم يكن للحقيقة. ومن الاستعمار المستحسنة قول الأعشى:
ولقد سلَبَتُ الكاعب ... الحسناءَ حسُنَ شَبَابهاِ
يريد تمتعت بها إلى أن أفنيت شبابها. وقال أوس بن حجر:
ترَى الأرْض منًا بالفضاء مريضةً ... مُعضلًةَ منًا بجَيشٍ عرَمرْمِ
فاستعارته للأرض المرض مبالغة في وصف كثرة عددهم ووقع حوافر خيلهم. فكأن الأرض حملت منهم ثقلًا لا تنهض به، فكسبها ذلك مرضًا. وحقيقة المرض النقصان، فكأن استطاعة الأرض عجزت، وقواها قصرت وتناقصت عن الاستقلال بما حملوها إياه وقال الشاعر:
ولَيلَةٍ مَرِضَتْ من كلُ ناحية ... فما يضُيء بها شمس ولا قمرُ
يريد بقوله " مرضت " نقص ضوءها. ومن الاستعمار اللطيفة قول الآخر:
وَرَدنَ لتَغويرٍ وقد وَقَدَ الحصَى ... وذابَ لعُابُ الشمس فوق الجماجمِ
فاستعار للحصى وقدة، إخبارًا عن توقد الهاجرة. واستعار للشمس اللعاب إخبارًا عن شدة الحر، ومن هاهنا أخذت قولك:
) وللشمس فوق اليعملات لعاب (
وقول الآخر:
رَأيتُ فَضيلةَ القَرشي لما ... رَأيت الخيل تسُرجُ بالرًماحِ
فاستعار للرماح " تسرج "، أي مشعلة، إخبارًا عن افتراشها وتلاحكها، وشدة الطعن واستحراره، فكأنها ملتهبة لاصطكاكها وتلاحكها كما قال امرؤ القيس:
إذا ركبِوا الخيَلَ واستَلأمٌوا ... تحَرقَتِ واليوْمُ قَرُ
النوع الثاني: وهو الاستمارة المستهجنة؛ وإنما سميت مستهجنة لأنهم استعاروا لما يعقل أسماء وألفاظ ما لا يعقل كقول الحطيئة:
1 / 21