إذا ما بكى من خلفها انصرفتْ لهُ ... بشقٍ وتحتي شقُها لمْ يحولُ
فقلت: أن امرأ القيس كان مفركًا والحبلى الرغبة في الرجال.
فيقول: إذا أليتها فأنا إلى غيرها أحب. وقد أخذت هذا البيت من أسلم بيت وأكرمه لفظًا:
لا والذيٌ تسُجدُ الجباهٌ لهُ ... ما لي بما تحتَ ثوْبهاِ خبَرُ
ولا بفيها ولا هممْتٌ بهاِ ... ما كان إلا الحديثٌ والنظر
وقولك الآخر في هذا النحو أسمي وأكرم وهو:
) يردَ يدًا عن ثوْبها وهو قادرُ ... ويعصي الهوَى في طيفهاَ وهوَ راقُد (
فقال: ألم أقل في الكلمة الثانية:
) أقْبلتهأُ غرُرَ الجيادِ كأنما ... أيدي بني في جَبهاَتها (
وفيها أقول:
) ومقانبٍ بمقانبٍ غادرْتهاُ ... أقواتَ وحَشيٍ من أقواتها (
فقلت: أما البيت الأول فمن أبي نؤاس يصف كلاب الصيد:
غُرَّ الوجوُهِ ومحَجلاَتها ... كأن أيدْينا على لباتها
والبيت الثاني من قوله في هذه الأرجوزة:
بأكلُبِ تمرحُ في قدَاتهاَ ... تعدُ عينَ الوحشِ من أقواتهاِ
وأبو مؤاس أخذه من قول أبي النجم:
تَعدُ عاناتِ اللوَى من مالها
وربنا أتيت بالبيت الجوف والمعتل، قال: وما المعتل والأجوف؟ فقلت: حكى يونس بن حبيب أن الأجوف الفاسد الحشو، والمعتل ما اعتل طرفاه. وحدود الشعر أربعة: وهي الفظ والمعنى والوزن والتقفية. ويجب أن يكون ألفاظه عذبة مصطحبة ومعانيه واستعاراته واقعة وتشبيهاته سليمة. وأن يكون سهل العروض رشيق الوزن متخير القافية، رائع الابتداء وربما أخليت وأخلفت وأعذرت وهلهلت، وما أراك تتطلع على موجب هذه الألفاظ. قال: وأي موجب لها! وإنما توردها تسمحًا وشغفًا بالإطالة وتسحبًا بالدعاوى الباطلة. فقلت لا تطل عناج القول في ما يخرج عن مذاهب أهل الفضل فتسمع من القول ما يضيق ذرع صبرك عنه. فقد قال امرؤ القيس:
إذا المرءُ لم يحزُنْ عليْهِ لسانهُ ... ليسَ على شيء سواهُ بخَزّانِ
بل يقال للشاعر إذا أتى بأبيات مشتملة على معان مبتكرة وألفاظ متخيرة، ثم أورد في أثنائها بيتًا خاليًا من هذا الوصف: قد أخلى ويقال له إذا أتى بمعنى لم يستوفه: قد أعذر. وإذا خالف بين قافية الضرب وقافية المصراع في افتتاح القصيدة: قد أخلف كما قال ذو الرمة:
ألا يا اسلمي يا دارَ ميَ على البلىَ ... ولا زالَ منهلًا بجرْعائك القطْرُ
فكأنه لما قال) على البلى (وعد ينظم قصيدة على روي وكأنه لما قال) القطر (أخلف ذلك الوعد إذ جعلها رائية. ثم قلت: ومن غزلك الذي باينت فيه مذاهب المطبوعين والمرهفين قولك:
) ربحْلةٍ أستمرٍ مقَبلهاُ ... سبحْلةٍ أبيضٍ مجرَدها (
فالربحلة: العظيمة الجيدة الخلق، والسبحلة: الطويلة العظيمة، ورجل سبحل ربحل. لذلك تستهجن هاتان اللفظتان في ألفاظ المحدثين، لأنهما من ألفاظ العرب الجافية. وقد أخذتهما نسخًا من قول بعض العرب في ترقيص بنية له:
سبحْلةُ ربحْلهْ ... تنميَ نَباتَ النخلةْ
قلت: وأخبرني عن قولك واصفًا فرسًا:
) قد زادَ في السُاقِ على النَقانقِ ... وزادَ في الأذن على الحَرانق (
) وزاد في الحذْر على العقاعق (
قال: وما في ذلك؟ قلت: إقدامك على نظم هذا الكلام الساقط واجتراؤك على قرع السماع بمثله غير مستحيٍ ولا مراقب. فما تريد بقولك) زاد (أزاد في قوة الساق أو في طوله، وفي خلق أذن الخرنق أو في لطف سمعها؟ ما أسخف هذا لفظًا وأقله من البيان حظًا، وإنما ذهبت في قولك:
) قد زاد َفي الساقِ على النقانقِ (
إلى قول أبي دواد:
لهُ ساقا ظليمٍ خا ... ضبٍ فوجئ بالرعُبْ
وفي قولك:
) وزاد في الحذرِْ على العقاعقِ (
قول بعض العرب:
منُيتُ بزَمرًدةٍ كالعصاَ ... ألصَ وأخبثَ من كنُدشِ
وقولهم:) هو أحذر من كندش (، وهو العقيق. وقد سمعت قول امرئ القيس
لهُ أبْطلاَ ظبيٍ وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرْحانٍ وتقربُ تتفُلِ
1 / 10