رابعا: النقد التاريخي للكتب المقدسة
يعتبر النقد التاريخي للكتب المقدسة أحد المناهج العلمية التي وضعتها الفلسفة الحديثة، كما يعتبر من أهم مكاسب الحضارة الأوروبية بالنسبة لدراسة التوراة والإنجيل، نتجت عن تأليه العقل في القرن السابع عشر، قرن سبينوزا، وإخضاع الطبيعة له، فكما أن هناك نظاما للطبيعة، هناك أيضا قوانين لضبط صحة الراوية، ولا فرق بين الظاهرة الطبيعية والنص الديني؛ كلاهما يخضع للعقل وقواعده. وقد حمل لواء النقد في هذا القرن ثلاثة: سبينوزا، ريتشارد سيمون، جان أوستريك.
16
فما إن وضع القرن الثامن عشر العقل في الإنسان، وحول التفكير الرياضي إلى التفكير الإنساني، حتى أصبح كبار النقاد هم كبار الإنسانيين، مثل فولتير ولسبخ وهردر. وكان النقد باسم العقل أكثر منه باسم التناقضات الداخلية في الرواية.
وما إن تحولت فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر إلى فلسفة للعلم في القرن التاسع عشر، حتى تحول النقد أيضا من النقد الفلسفي باسم الإنسان إلى النقد العلمي القائم على تحقيق النصوص، والمقارنة بينها، والاعتماد على فقه اللغة، وعلم الأساطير المقارنة، وتم وضع قواعد المنهج التاريخي بعد كشف «الشعور التاريخي» عند دلتاي، وتقدم العلوم الإنسانية. وقد كانت فلسفة هيجل أحد المصادر التي خرجت منها المدرسة الأسطورية في النقد، عند شتراوس وباور، فكما وصف هيجل تطور الروح وصف نقاد المدرسة الأسطورية، وهم من اليساريين، تطور العقيدة الموازي لتطور النص واعتبروا كليهما من فعل الروح ومن وضعها.
ويعتبر النقد التاريخي أهم الأسباب في نشأة حركة التجديد الديني في الفكر المعاصر،
17
فقد قام البعد الشعوري في النص الديني، وأصبح النص يعبر عن التجارب الحية للجماعة الدينية الأولى التي نشأ النص منها، ومن ثم كان لا بد من وضع النص في الحياة
Sitz im Leben
ودراسة المكونات النفسية للشعور الجماعي الأول، مثل واقعة الانتظار، أو خيبة الأمل، أو الشعور بالاضطهاد. وأصبحت رسائل الحواريين تعبر عن تجارب شخصية لهم، بل وعن عقدهم النفسية ورغباتهم. عاشت الجماعة الأولى أفكارها، ثم عبرت عنها بالنصوص بعد ذلك، وهي التي جمعت في مجموعات صغيرة، ثم في مجموعات كبيرة، حتى تكونت الأناجيل في القرن الثاني التي كانت تعد بالعشرات، ثم اختارت الكنيسة أربعة منها، ما يتفق مع عقائدها وقننتها في القرن الرابع،
Página desconocida