Tratado sobre cómo se propagan las religiones
رسالة في بيان كيفية انتشار الأديان
Géneros
1
جوابا عن سؤال سأله بعض الأدباء في الجريدة المذكورة مؤداه: هل التمدن الإسلامي في صدر الإسلام قام بالسيف أم بالقلم؟ ولم أتصد للجواب عن سؤال السائل وقتئذ إلا رغبة لكشف حقيقة يظهر من نفس السؤال أنها تهم السائل كما تهم كثيرين غيره من ذوي الميل لمعرفة حقائق الحوادث الاجتماعية؛ إذ مما يدرك بالبديهة أن التمدن الإسلامي لم يقم في صدر الإسلام، بل قام بعده - أي بعد أن استتب في الأرض سلطان المسلمين وتدونت علوم الدين - وإنما الشريعة الإسلامية هي التي قامت في صدر الإسلام. فالتمدن الإسلامي
2
قام عن الشريعة الإسلامية ولم يقم معها، فباطن مراد السائل إذن هو غير ما يتبادر للذهن من ظاهره، ولا جرم، فإن تتبع العلل يؤدي إلى معرفة حقيقة معلولاتها، وهذا ما دعاني لأن بدأت في جوابي المذكور ببيان العلاقة التي بين التمدن والأديان عموما وبينه وبين الشريعة الإسلامية خصوصا، ومن ثم تخلصت لبسط كيفية قيام الإسلام وانتشار شريعته بين الأنام، فبرهنت على أنها إنما قامت بالدعوة، فالتمدن الإسلامي قام عنها بالقلم لا بالسيف، فلم يقع ذلك عند بعض الكتاب موقع القبول، فتصدى للرد علي فيما كتبت، حيث نشر في الجزء التالي من الجريدة المذكورة مقالة بإمضاء «ر. ن»، حاول فيها إقامة الدليل النقلي على قيام الإسلام بالسيف، وأن التمدن الإسلامي قام معه كذلك، فعندئذ لم أر بدا من ولوجي في باب المناظرة توصلا لإقناع حضرته بأنه مخطئ فيما توهمه وذهب إليه، وما زلت معه في أخذ ورد حتى إذا اعترى قلمه الكلال أو كاد رأيته جعل يكتب بالبنان ما لا يوافقه عليه الجنان، أو كأنه يحاول الإشارة من طرف خفي إلى استنكار مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية مع أن الجهاد شرع في كثير من الشرائع الإلهية السابقة، فلا ينكر على الشريعة الإسلامية كما لم ينكر على غيرها من قبل، وبما أن بيان ذلك على وجه أوسع مما بسطناه له في جريدة الهلال الأغر ضروري لإقناع حضرته وفريق القائلين بقيام الإسلام - أو الشريعة الإسلامية أو الدين الإسلامي - بالسيف - وهو مما لا يسعه مقام الجرائد العلمية - فقد اختتمت مناظرتي معه، وتمت بالوعد بوضع رسالة خاصة آتي بها على تفصيل ما أجملناه في الجريدة المذكورة مشفوعا بتحقيقات أخرى ذات علاقة بأصل المبحث لا تخلو من فوائد جمة تطمئن معها الضمائر وترتاح إليها الخواطر، متوخيا في ذلك جانب الحقيقة وبيان حكاية الواقع مع نبذ التشيع لفريق والتحامل على آخر شأن الكتاب الصادقين الذين لا يستهويهم هوى الغرض والتعصب، ولا تنقاد أقلامهم لغير حرية الفكر والضمير.
وإنني وفاء بالوعد وضعت هذه الرسالة المختصرة التي لو سلكت في كل مبحث منها مسلك التطويل والتفصيل لوجدت للقول مجالا ذا سعة، غير أني رأيت الاختصار والإجمال أولى بمثل هذا المقام، وعلم الله أني لم أخض غمار هذا البحث إلا بعد ما حاولت الإعراض كثيرا عما بات يتردد صداه في الآذان من صوت البهت الصادر عن فريق القائلين بقيام الإسلام بالسيف إيهاما وتغريرا، وإخال أن في هذا ما يمهد لي العذر عند إخواني في الوطنية من أي مذهب كانوا على وضع هذه الرسالة التي لم أقصد بها إلا إقناع معشر لو اعتبروا بالحكمة المأثورة عن المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام، وهي قوله: «لماذا تنظر إلى القذي في عين أخيك ولا تفطن للخشبة التي في عينيك» لكفونا مؤنة الأخذ والرد، ولكن أبى الحق إلا الظهور والسلام.
وقد قسمت هذه الرسالة إلى خمسة فصول: الفصل الأول: حاجة البشر إلى الاجتماع وأن دعامته الدين، الفصل الثاني: ترقي الشرائع بترقي الإنسان، الفصل الثالث: القوة في الشرائع، الفصل الرابع: مشروعية الجهاد في الشرائع الإلهية، الفصل الخامس: كيفية قيام الشرائع وانتشارها بين البشر، وفيها مطالب، فأرجو ممن يطلع عليها أن لا يحمل كلامي على غير محمل الإخلاص في خدمة الحق، وأن يسبل ذيل المعذرة على ما يراه فيها من خطأ ربما أداني إليه قصر باعي، وإنما هي كلمة حق لم يسعها الصدر فباح بها اللسان، وها أنا أشرع ببيان المقصود، وبالله المستعان.
الفصل الأول
حاجة البشر إلى الاجتماع وأن دعامته الدين
من البديهي أن الإنسان يستحيل عليه الاستغناء عن مشاركة من سواه من بني الطينة البشرية حتى في أدنى الأعمال التي هي من ضروريات الحياة، وإلا لكان كالسائمة يأكل مما تنبت الأرض ويشرب مما تمطر السماء دون افتقار منه إلى الألفة الاجتماعية التي هي من بواعث العقل الذي فضل الله به الإنسان على سائر الحيوان، لهذا فالإنسان منذ فطر عقلا شعر بالحاجة إلى الاجتماع الذي به قوام الحياة الأدبية، فافترق إلى جماعات وأقوام كانت في أبسط أطوارها خاضعة لحكم النظام الاجتماعي ولو بما يسمى بالعصبية.
ولا ريب أن الاجتماع على صورته المذكورة غير جدير بالاعتبار الكمالي في جانب الحاجة إلى التآلف العمومي والاجتماع المدني، لهذا افتقرت الشعوب مع التمادي والتدريج واتساع دائرة المعاملات الدنيوية إلى روابط أعم من العصبية، تجمع إليها شتات القوى المتوزعة وتضم إلى سلسلتها حلقات الأقوام المتفرقة، التماسا للتعاون الذي هو علة النمو والبقاء، وتدرجت في مهد الزمان عواطف الشعور البشري بالحاجة إلى القوة الوازعة التي تصان في جانبها حقوق الأفراد باعتبار الأعمال المشتركة والشخصية، والجماعات باعتبار الحقوق القومية والعلائق الجوارية، وذلك لأن تنوع العناصر البشرية الداعي لتعدد المطامع والغايات بين أصناف الإنسان لما كان من شأنه إيجاد المنازعات الشخصية والمشاحنات القومية التي تضر بالعمران وتأخذ على البشر سبل الترقي في الحياة الاجتماعية في كل آن، فكان من الضرورة وجود قوة معنوية تجذب أطراف الشعوب إلى نقطة جامعة، تستحيل بها العصبية الجنسية إلى رابطة عمومية، يترتب عليها توحيد الكلمة وتوثيق عرى التأليف والاجتماع وتوطد دعائم النظام المدني الكافل بدوام الترقي البشري على صراط الحكمة والعلم.
Página desconocida