﷿: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ [مريم: ١٢] .
فَأَتَى أَبَوَيْهِ، فَسَأَلَهُمَا أَنْ يُدَرِّعَاهُ الشَّعْرَ، فَفَعَلا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ يَخْدُمُهُ نَهَارًا، وَيُصْبِحُ فِيهِ لَيْلا، حَتَّى أَتَتْ لَهُ خَمْسَ عَشَرَةَ حِجَّةَ، فَأَتَاهُ الْخَوْفُ، فَسَاحَ، وَلَزِمَ أَطْرَافَ الأَرْضِ وَغِيرَانَ الشِّعَابَ، وَخَرَجَ أَبَوَاهُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَاهُ حِينَ نَزَلا مِنْ جِبَالِ الثَّنِيَّةِ عَلَى بُحَيْرَةِ الأُرْدُنِّ، وَقَدْ قَعَدَ عَلَى شَفِيرِ الْبُحَيْرَةِ، وَأَنْقَعَ قَدَمَيْهِ فِي الْمَاءِ، وَقَدْ كَادَ الْعَطَشُ يَذْبَحُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَعِزَّتُكَ لا أَذُوقُ بَارِدَ الشَّرَابِ حَتَّى أَعْلَمَ مَكَانِي مِنْهُ، فَسَأَلَهُ أَبَوَاهُ أَنْ يَأْكُلَ قَرِيمًا كَانَ مَعَهُمَا مِنْ شَعِيرٍ، وَيَشْرَبَ مِنَ الْمَاءِ، فَفَعَلَ، وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَمُدِحَ بِالْبِرِّ، فَقَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم: ١٤] .
وَرَدَّهُ أَبَوَاهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ بَكَى، وَبَكَى زَكَرِيَّا لِبُكَائِهِ، حَتَّى يُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَمَتْ دُمُوعُهُ لَحْمَ خَدَّيْهِ، وَبَدَتْ أَضْرَاسُهُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا يَحْيَى، لَوْ أَذِنْتَ لِي لاتَّخَذْتُ لَكَ لِبَدًا لِيُوَارِي أَضْرَاسَكَ عَنِ النَّاظِرِينَ.
قَالَ: أَنْتِ وَذَاكَ.
فَعَمَدَتْ إِلَى قِطْعَتَيْ لُبُودٍ، فَأَلْصَقَتْهُمَا عَلَى خَدَّيْهِ، فَكَانَ إِذَا بَكَى اسْتَنْقَعَتْ دُمُوعُهُ فِي الْقِطْعَتَيْنِ، فَتَقُومُ إِلَيْهِ أُمُّهُ فَتَعْصِرُهُمَا بِيَدِهَا، فَكَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى دُمُوعِهِ تَجْرِي عَلَى ذِرَاعَيْ أُمِّهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ هَذِهِ دُمُوعِي، وَهَذِهِ أُمِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
1 / 73