فاتحة الكتاب
1 - الاسترقاق في الأزمان القديمة
2 - الكلام على الاسترقاق في القرون الوسطى
3 - الاسترقاق في الأزمان الحديثة
4 - الاسترقاق في الديانة النصرانية
5 - الاسترقاق عند أهل الإسلام
6 - الكلام على الرق في مصر من حيث العرف والأخلاق
الملحقات
فاتحة الكتاب
1 - الاسترقاق في الأزمان القديمة
2 - الكلام على الاسترقاق في القرون الوسطى
3 - الاسترقاق في الأزمان الحديثة
4 - الاسترقاق في الديانة النصرانية
5 - الاسترقاق عند أهل الإسلام
6 - الكلام على الرق في مصر من حيث العرف والأخلاق
الملحقات
الرق في الإسلام
الرق في الإسلام
رد مسلم على الكردينال لافيجري
تأليف
أحمد شفيق
ترجمة
أحمد زكي
مقدمة الطبعة الثانية
بقلم أحمد شفيق
طبعت هذه الترجمة أول مرة سنة 1892، وكان المؤلف عند تأليف هذه الرسالة بالفرنسية سنة 1891 (أحمد شفيق بك السكرتير الخاص لسعادة ناظر الخارجية) والمترجم حضرة (أحمد زكي بك مترجم مجلس النظار).
وقد وردت بحاشية الكتاب تفسيرات لبعض ما ورد في صلبه وتعليقات عليه، معظمها بقلم المترجم، وبعضها مقيد بزمنه، وقد أبقيت عليها هنا في هذه الطبعة، حتى يعلم القارئ اتجاه التأليف والترجمة في ذلك الحين، ولفائدة بعض هذه التعليقات من الوجهة التاريخية.
وقد دعاني إلى إعادة طبع هذه الترجمة، نفادها من زمن بعيد، وورود طلبات من الكثيرين بإعادة طبعها، ولأن هذه المسألة «الرق في الإسلام» لم يتناولها البحث - فيما أعلم - طوال هذه المدة مع الحاجة إليها من الوجهات الدينية والاجتماعية والسياسية.
وتصدر هذه الطبعة بعد أن تغيرت الحالة من وجهة الاسترقاق، فعند تأليفها كان الرق منتشرا في السودان وفي مواضع أخرى، وكان هناك قلم خاص في القاهرة لتحرير الرقيق، وقد أصبح الآن غير موجود لانتهاء عهد الاسترقاق.
مقدمة المترجم
بقلم أحمد زكي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه وأهله ونسله والمقتدين بسنته من ذوي ملته في قوله وفعله.
وبعد، فإن الكردينال لافيجري قد طبق الأرض ذكره، واشتهر في الخافقين أمره، وجرت على لسان البرق خطاباته، واستفاضت في الجرائد والصحائف كتاباته، لأنه تصدى - كما يقول - للأخذ بناصر الأرقاء، ولكنه تطرف وتغالى، فقادته الغاية العمياء إلى الطعن على الديانة الحنيفية الغراء، فعدل عن واجب الاعتدال في جادة الجدال، ولذلك انبرى للرد عليه كثيرون من حلفاء هذا الدين المبين، وأتوه بهذا اليقين، ولكن الذي فاز بقصب السبق في هذا المضمار، وحاز الفضل والفخار، هو حضرة المحقق البارع أحمد بك شفيق، كاتم أسرار سعادة ناظر الخارجية المصرية، فإنه أجاد في الكلام على الرق عند جميع الأمم، وفي جميع الأديان، ثم انتقل من هذه التوطئة إلى بيان الاسترقاق في الإسلام، ليظهر فضل الدين المحمدي في هذا المقام، فينجلي الصبح لذي عينين، إذ بضدها تتميز الأشياء، وحينئذ يحكم العاقل الخبير، والناقد البصير، بأن جناب الكردينال جنح إلى الاعتداء بدلا من الاعتدال، ولما أتم المؤلف هذه الرسالة خطب بها على الجمعية الجغرافية الخديوية في جلسات متوالية، ونالت من الإعجاب والاستحسان ما نالت، ولذلك طلب إلي كثير من الكبراء وأهل الفضل أن أنقلها إلى اللغة العربية ليعم نفعها، وتكمل فائدتها، فرجوت حضرة مؤلفها أن يجعل لي قسطا من الفضل في هذا العمل، فتفضل بالإجابة، فاستخرت الله في هذه الخدمة الوطنية، غيرة على هذا الدين القويم، وشمرت عن ساعد الاجتهاد، فعربتها بغاية العناية، حتى جاءت بحمد الله تعالى مثالا للترجمة التي يحافظ فيها على المعنى تمام المحافظة مع مراعاة القواعد الإنشائية العربية والأساليب القولية الكلامية التي تجعلها أهلا للقبول عند الناطقين بالضاد في جميع البلاد، ثم حليتها بفوائد علمية وحواش تاريخية جغرافية؛ لكي يكون المطلع عليها في غنى عن الرجوع إلى غيرها مما يدخل في دائرة بحثها، وقد راجعت الأصول وأمهات الكتب، فنقلت منها الأحاديث الشريفة بشرح بعضها، وكذلك فعلت ببعض الآيات القرآنية الكريمة، وأكملت القصص والحوادث التاريخية من مصادرها المعول عليها الموثوق بها، وفوق ذلك، فقد لاحظت بنفسي طبع هذه الرسالة على هذا الشكل الفائق الأنيق، والأسلوب الشائق الرقيق، فمزجت بين الحروف المختلفة المقدار كلما رأيت ذلك واجبا لتنبيه القراء، واستلفات الأنظار، وفصلت الفقرات عن بعضها فصلا يسهل به التمييز بين المواضيع ، جاريا في ذلك على النمط الذي اصطلح عليه أهل أوربا من إتقان الطبع وإحكام الوضع.
فاتحة الكتاب
اتفق لي في أول يوليو سنة 1888 أن حضرت بكنيسة
1
سان سولبيس
2
في مدينة باريس، وسمعت نيافة
3
الكردينال
4
لافيجري
5
وهو يخطب بها على أهل تلك المدينة ويصف فظائع النخاسة بأفريقيا الوسطى، ويسوق لهم الحديث على الاسترقاق، وبساطته في البلاد الإسلامية، ولم يكتف نيافته بإدانة المتدينين بالدين المحمدي بهذا الأمر، بل نسب قبائحه إلى نصوص الشريعة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام.
ولما كانت هذه التهم لا أساس لها، ولا برهان ينهض عليها، وقد بثها في لوندرة وبروسل
6
دعاني حب الحقيقة إلى البحث عن هذا الموضوع في الكتب الدينية المعتبرة لدينا، المعول عليها عندنا، فأتاح لي الجد - بفضله تعالى - إقامة الحجة وإيراد الدليل على أن القرآن الشريف فوق كونه لم يعتبر الرقيق بمنزلة الحيوان، فقد جاء بكثير من النصوص والوصايا التي تفرض على المسلمين أن يحسنوا رعايته والعناية بشأنه، وأن تكون معاملتهم له بالحسنى والمرحمة، وهو أمر يجهله إلى الآن عامة الأوروپاويين، حتى القاطنين منهم بديار المشرق، اللهم إلا ما ندر، فإنه بديه أن مجرد السكنى في بلد من البلاد لا توقف الإنسان تمام الإيقاف على كنه شرائعها، بل يعوزه أيضا أن يكون عارفا حق المعرفة بلغة أهليها، ولا ريب في أن علماء المشرقيات المتوفرة فيهم هذه الصفات، هم أقل من القليل.
وأتعشم في وجه الله الكريم أن يجعل نتيجة بحثي تميط اللثام عن حقيقة هذه المسألة الخطيرة التي كثر اهتمام الحكومات والأفراد بها في هذه الأيام. •••
قبل الخوص في هذا الموضوع ينبغي لنا أن نأتي بالإيجاز وبوجه العموم على ذكر الاسترقاق عند الأمم:
الرق هو حرمان الشخص من حريته الطبيعية وصيرورته ملكا للغير.
7
قالوا: إن الاسترقاق ظهر منذ كان الاجتماع الإنساني، وهو قول في غاية الإصابة والسداد، فإنه ظهر حقيقة عندما وقعت الاجتماعات البشرية الأولى، أيام كان حجاب الجهالة مسدولا على عالم الفطرة، والذي أوجب حصول هذا الفعل هو أمر يسهل بسطه وإيراده ، وذلك أنه لما كان العمل من أصعب الضرورات وأشقاها أخذ الإنسان في البحث عما يخلصه من عنائه ومكابدته، فإذا بطلبته بين يديه عند الهيئة الاجتماعية، فإن القوي ألزم الضعيف بالاشتغال، ومن ذلك نشأ الاسترقاق.
ثم جاءت الحروب، وتولدت الأطماع، فبثت الاسترقاق في جميع أجزاء العالم، وعند معظم الأمم، وصار الناس لا يقتلون العدو، بل يبقون عليه ليعمل لهم. هذا، واعلم أن طبيعة الأقاليم - وهي من أقوى العوامل في إنماء الجمعيات البشرية - كان لها تأثير عظيم في زيادة الاسترقاق واتساع نطاقه، حتى إنه ما لبث أن بلغ عدد الأمم التي على البساطة والفطرة في جميع بلاد المشرق مبلغا عظيما، ودرجة قاصية، وانتشارا زائدا، فإن ثمن الرقيق كان زهيدا، وعمله مفيدا بالنظر إلى ما صارت إليه الصناعة والتجارة من التقدم والأهمية، ولقد كان الحال على خلاف هذا المنوال عند أمم الشمال، فإن تغذية الرقيق عندهم كانت تكلفهم مصرفا جسيما، ولم يكن لعمله كبير جدوى ولا فائدة، فلهذا كان الاسترقاق في بلاد الشمال منذ العصور الخوالي أقل انتشارا منه في جهات الجنوب من المعمورة، وهذا يدلنا على أن الاسترقاق هو من الأمور الاقتصادية التدبيرية المترتبة على العمل والاشتغال.
ولنبحث الآن في حالة الرقيق عند الأمم المختلفة واحدة واحدة.
هوامش
الفصل الأول
الاسترقاق في الأزمان القديمة
الفرع الأول: الاسترقاق عند قدماء المصريين
كان الرقيق في مصر عبارة عن آلة للعمل، وكان أيضا من الأشياء المعدة لمشاهد الزينة، ومظاهر الأبهة، فكان الأرقاء بقصور الملوك، وبيت الكهان، ودار المقاتلين. ثم إن الفاقة جعلت لسائر الأفراد سبيلا إلى امتلاك الأرقاء أيضا، وكان الاسترقاق عبارة عن الحق في إعدام الحياة والإبقاء عليها، وكان الأسارى على العموم أرقاء للدولة، يقومون بالأعمال والأشغال التي تستلزمها حاجات القطر، أو التي تدعو إليها موجبات زخرفته وتحسين هيئته، وفيما عدا هذه التشديدات الخاصة بالاستخدام في الصالح العام قد تحسنت حالة الرقيق وتلطفت كثيرا، فكان يجوز رفع الأمة إلى مقام الزوجة، ثم إن الأخلاق والعادات كانت تقضي بالشفقة على الرقيق والدفاع عنه، بل إن الشريعة كانت تجعل حوله سياجا يقيه من البغي والأذى، فقد نصت على أن من قتل الرقيق يقتل فيه.
1
الفرع الثاني: الاسترقاق عند الهنود
قد حددت شريعة مانو
2
بطريقة شرعية دينية درجة السودرا (هو الرجل من الطبقة الدنيئة المستخدمة) مع البرهمي، بل ومع سائر الناس، فقد ورد بها «أنه إذا اشترى البرهمي رجلا سودرا، بل وإذا لم يشتره، فإنه يجوز له أن يجبره على خدمته بصفة كونه رقيقا (دارا)، لأن مثل هذا الإنسان ما خلقه واجب الوجود إلا ليخدم البراهمة».
ثم إن السودرا وإن أطلق سيده سراحه، لا تفارقه صفة الخدمة، لأنه من ذا الذي يمكنه أن يزيل عنه حالة طبيعية مرتبطة به!
ثم قيل في تلك الشريعة:
إذا اضطهد السودرا أحد البراهمة فلا مندوحة عن قتله البتة، وإذا وجه رجل من الطبقة الدنيئة سبابا فاحشا إلى أحد الدويدياس (أي أولئك الذين تتألف منهم الطبقات العليا الثلاث؛ وهم البراهمة وكشاترياس وفيزياس) فجزاؤه سل لسانه، لأنه ناتج من القسم الأسفل من برهمة، وإذا ذكر أحدهم باسمه وبطبقته على هيئة يؤخذ منها الازدراء، فجزاؤه أن يوضع في فمه خنجر طوله عشر أصابع، بعد إحمائه بالنار إحماء شديدا، فإذا ساقه عدم الحزم وقلة التبصر إلى بذل النصائح والمواعظ للبراهمة فيما يتعلق بواجباتهم، فعلى الملك أن يأمر بوضع الزيت المغلي في فيه وفي أذنه. إذا سرق البرهمي من السودرا عوقب بالغرامة، أما إذا سرق السودرا من البرهمي فجزاؤه أن يحرق، وإذا تجاسر السودرا على ضرب أحد القضاة فليعلق بسفود
3
وليشو حيا، فإذا ارتكب البرهمي مثل هذه الجريمة فليغرم.
وقد تقرر في الشرائع البرهمية تقسيم جميع الأشخاص الملزمين بالخدمة إلى قسمين؛ وهما الخادمون والأرقاء، فالأعمال الطاهرة من خصائص الخادمين، والأعمال النجسة على عواتق الأرقاء.
الفرع الثالث: في الاسترقاق عند الآشوريين والأمم الإيرانية
من نظر إلى تاريخ مملكة آشور
4
في الأحقاب السوالف علم أن الاسترقاق كان عريقا بها متأصلا فيها، فقد كانت القصور مغتصة بالنساء والأرقاء المخصصين للجمال والزينة.
أما مملكة الفرس التي امتد سلطانها إلى حدود آسيا المعروفة في وقتها، فقد استجمعت جميع أنواع الاستخدام المعروفة عند كثير من الأمم المختلفة، فكان الأرقاء الرعاة، والأرقاء الخاصون بحاجات الزينة، والثروة واليسار، وكان في معبد أنايتس
5
بأرمينيا وهيكل كومانة بكبدوكيه
6
أرقاء قد أعدوا لعمل الخبائث المستقبحة المنكرة التي قضت بها خرافات القوم.
وقد أوجد العرف والاصطلاح في بعض البلاد أوقات للأرقاء يتفرغون فيها لأنفسهم طلبا للراحة، بل قد اجتهد واضعو الشرائع عندهم في تقليل إجحاف الموالي بمواليهم وتخفيف وطأة مظالمهم عليهم؛ قال هيرودوت:
7 «لا يجوز لأي فارسي أن يعاقب عبده على ذنب واحد قد اقترفه بعقاب بالغ في الشدة والصرامة.» ولكن إذا عاد العبد لارتكاب هذا الذنب بعد ما أصابه من العقاب، فلمولاه حينئذ أن يعدمه الحياة، أو أن يعاقبه بجميع ما يتصور من أنواع العذاب.
الفرع الرابع: في الاسترقاق عند الصينيين
قد أرخت الأيام سدالها، وألقت الليالي ستارها، على مبدأ ظهور الاستعباد بهاتيك البلاد،
8
فلقد كان الاستخدام للمنفعه العمومية موجودا بها قبل التاريخ المسيحي بأجيال طوال، يقوم به المحكوم عليهم والأسارى، ثم امتزجت أخلاق القوم بهذه العادة، فاستعملوا الاسترقاق، وكانوا يجلبون الرقيق من الخارج، أو يأخذونهم من ذات الصين، كما كانت تفعل الدولة نفسها. أما من الخارج فبواسطة الحروب والأسلاب، إذ كانوا يوزعون الغنائم من أناس وأشياء على كبار الضباط، أو يأتون بأثمانهم لخزينة الدولة، وأما في نفس البلد فبسبب الفاقة والاحتياج، لأن الفقير كان يضطر لبيع نفسه أو لبيع أولاده.
فكان هناك عائلات مستعبدة بسبب الشدة، وأرقاء قد بيعوا بالثمن، وكان للمولى على رقيقه التصرف المطلق؛ يبيعه كما اشتراه، بل ويبيع أولاده.
والظاهر أن الاسترقاق كان في بلاد الصين قليل الشدة والصعوبة، فإن الشرائع والعرف والأخلاق كانت تساعد على تلطيف حاله، فقد أصدر الإمبراطور كوانجون (وهو الذي كان عائشا بعد المسيح بخمسة وثلاثين سنة) أمرين اثنين بوقاية حياة الرقيق وشخصه، ضمنهما عبارات تشف عن كمال المروءة، وتشعر بمقام الإنسانية ودرجاتها العالية، فقد قيل فيهما: «إن الإنسان هو أفضل وأشرف المخلوقات التي في السماء والتي في الأرض ، فمن قتل رقيقه فليس له من سبيل في إخفاء جرمه، ومن أخذت به الجراءة فكوى رقيقه بالنار حوكم على ذلك بمقتضى الشريعة، ومن كواه سيده بالنار دخل في عداد الوطنيين الأحرار.» ولقد كان بعض الأرقاء يصادفه الحظ، ويقبل عليه الدهر، فتسمو به المناصب إلى أن يكون موضع الثقة من مولاه، بل ويجد في بعض المكاسب طريقة ينال بها حريته، ويتخلص من ربقة الرق، ولهذا كان الاسترقاق قليلا عند أمة الصينيين، التي امتازت بجودة الفطانة، وسلامة الفكر، وأصالة الرأي.
الفرع الخامس: في الاسترقاق عند العبرانيين
وجد الاسترقاق عند هذه الأمة منذ الأزمان القديمة جدا، وكان الأرقاء في زمن أنبياء بني إسرائيل معدودين من أصول الثروة وأسباب الغنى عند أولئك الرؤساء، الذين كان دأبهم الحل والترحال والضرب في أطراف البلاد، وكان مقام الأرقاء كمقام الماشية، ولكن كما أن صاحب الدابة لا يرضى بتحميلها فوق طاقاتها، وكما أن صاحب الناقة لا يجهدها أكثر مما في استطاعتها، كذلك كان شأن السيد الحكيم المتبصر، فإنه ما كان يلزم رقيقه بعمل يزيد عن الحد، وكان للأرقاء عندهم بعض الحقوق، فكان لهم أن يستريحوا سبعة أسابيع في السنة، ولا يجوز للرجل أن يضرب عبده ضربا مبرحا مرهقا، ومن فعل ذلك أوخذ بعقاب فيه بعض الشدة، وكذلك من بتر الرقيق أو كسر له عضوا أو سنا. ولهذا يصح القول بأن العبرانيين كانوا يعاملون الأرقاء معاملتهم أنفسهم، وكان كثيرا ما يتفق للمولى أن يميز إحدى إمائه، فيتخذها حليلة له، بل الأغرب من ذلك أن العبد الذكر كان يتاح له في بعض الأحيان أن يتزوج ببنت مولاه، وذلك حينما لا يكون للمولى أولاد ذكور، وفوق ذلك، فإن العبرانيين كانوا يتسرون غالبا بجواريهم.
وخلاصة القول أن الاسترقاق عند العبرانيين، وعند غيرهم من سائر أمم المشرق كان مقرونا بالتلطف والتعطف، اللذين لا يرى لهما مثيل في بلاد اليونان، ولا في مدينة رومة، وفضلا عن ذلك فقد ورد بشريعة سيدنا موسى عليه السلام أن العبد إذا استحق القصاص فلا يصدر الحكم عليه إلا من القاضي دون سواه، فكان في ذلك احتياط دقيق ورحمة بأولئك المساكين؛ لئلا يكونوا عرضة لقساوة الموالي، وغرضا لسهام أهوائهم.
9
الفرع السادس: في الاسترقاق عند الإغريق
10
كان الاسترقاق أمرا شائعا في جميع بلاد اليونان، ولم يكن في الفلاسفة الكثيرين الذين تفتخر بهم هذه البلاد من أنكر الاسترقاق أو اعتبره مخالفا للعدالة والآداب ومكارم الأخلاق، بل إن أرسطو نفسه أيد صحته، وأثبت مشروعيته، معتمدا في رأيه على اختلاف السلائل البشرية وتنوع أصناف بني آدم، وقد عرف الرقيق بأنه «آلة ذات روح أو متاع قائمة به الحياة.»
11
ثم قسم الجنس البشري إلى قسمين؛ وهما: «الأحرار والأرقاء بالطبع».
وكان اليونان يقسمون الرقيق إلى صنفين متباينين؛ فالصنف الأول سكان الأقطار التي افتتحوها، وغلبوا أهلها على أمرهم، وكان هؤلاء الأرقاء تابعين لأرضهم، ومعتبرين كجزء منها، والصنف الثاني أرقاء البيع والشراء، وهؤلاء كان للموالي عليهم حق السيادة المطلقة.
وأغلب الأرقاء كانوا من الفريق الثاني، وما كان للمرأة التي تباع أو تؤسر أن تمتنع عن الافتراش لسيدها، وكانوا يقولون بحرية من يولد من مثل هذه المخالطة، ولكن ذلك كان وصمة عليهم، وموضع معرة تدنسهم، وسببا في سقوط اعتبارهم عن غيرهم.
وكان الاسترقاق للعهد الأول بالتلصص في البحار، فكانوا يختطفون سكان السواحل لاسترقاقهم، ثم صارت المستعمرات اليونانية في آسيا الصغرى أسواقا عظيمة تباع فيها العبيد وتشرى، بل كانت أثينة
12
نفسها من أهم هذه الأسواق، ولم يكن لها من يزاحمها في هذه التجارة إلا بعض أسواق قديمة لقربها من موارد الرقيق، وذلك مثل قبرص وساموس، وخصوصا صاقس،
13
بل قيل إن سكان هذه الجزيرة هم أول من اتجر بالأرقاء والإماء.
وكان العبيد يعملون لمواليهم أو لأنفسهم، فإذا عملوا لأنفسهم كان عليهم أن يدفعوا لأسيادهم مبلغا معينا في كل يوم على سبيل جعالة يجعلونها لهم، بل يظهر أنه كان يوجد كثير من بني يونان ممن اشتروا العبدان، وخصصوهم للإجارة ليس إلا - ولعمري إن ذلك من أفضل الوجوه وأحسن الطرق في استعمال المال واستغلاله.
وكان العبيد قائمين في أثينة بخدمة المنازل أيضا ، ولم يكن في هذه المدينة رجل عضه الفقر وأخنى عليه الدهر حتى أحرمه من امتلاك عبد واحد على الأقل، يشغله في القيام بلوازم منزله.
وكان حق المولى على عبده لا يختلف في شيء من الأشياء عن حقه على سائر مملوكاته، فكان يجوز له رهنه
14
على أن حالة العبد عند اليونان لم تكن في الشدة والمقاساة مثلها عند أمة الرومان، وذلك فيما خلا مدينة إسبرطه؛
15
فقد قال المؤرخ پلوترك:
16 «إن الحر فيها كان أكثر الأحرار حرية، وإن الرقيق أكثر الأرقاء استرقاقا.»
وكان المولى منهم يعاقب عبده بالجلد بالسوط، وبالطحن على الرحى، وكان يكوي الآبق أو الوارد من البلاد المتبربرة
17
بالحديد المحمي على جبهته، على أن حياة الرقيق وشخصه كانا في كنف القانون ورعايته، فما كان يجوز إعدامه الحياة إلا بعد صدور الحكم القانوني عليه.
وقد كان يوجد بأثينة أناس من العتقى، ولكنهم ما كانوا يكتسبون الحقوق الوطنية، فكان مقامهم كالأغراب المتوطنين في البلاد ليس إلا، بل كانوا ملزمين بالولاء لمواليهم مدى الحياة، وأن يقوموا لهم بواجبات مفروضة، وكان هناك أرقاء عموميون تشتريهم الدولة للقيام ببعض الشئون، فمنهم فريق كان يناط به حفظ المدينة وخفارتها، فكان الواجب عليهم المحافظة على استتباب الأمن وتوطيد دعائم الراحة في الاجتماعات العمومية.
الفرع السابع: في الاسترقاق عند الرومانيين
إن العادة التي جرى عليها السلف في الأزمان القديمة من استعباد الأسارى كانت بالطبع متبعة أيضا عند الرومانيين، فكان العمل برومة
18
في مبدأ الأمر موكولا إلى العاملين الأحرار، ولذلك انبثت روح الشهامة والرجولية في جميع سكان هذه المدينة الشهيرة في مبادئ تاريخها، على أن هذه الحالة لم تبق على ما هي عليه، بل زالت بالمرة لاتساع نطاق المدينة، وتطرق وجوه الزخرف والبهرجة إليها، فكثر عدد الرقيق، ثم ازدادت لما توسعت رومة في الفتوحات وغزو البلاد، فوضع البطارقة
19
والأغنياء أيديهم على العبيد واستعملوهم في حراثة أراضيهم، ولم تلبث الصنائع والفنون الميكانيكية أن وقعت أيضا في أيدي الرقيق.
وكانت وجوه الاسترقاق برومة متعددة، فإنه فضلا عن استرقاق الأمم المغلوبة بالحرب واستعبادها كان هناك صنف آخر، وهم العبيد بالولادة؛ أي الذين يولدون من الأرقاء. وصنف ثالث من الأحرار الذين قضت عليهم بعض نصوص القانون بالوقوع تحت نير العبودية،
20
ولا حاجة للقول بأن الحرب كانت من أعظم موارد الاسترقاق عند الرومانيين، ولذلك كان النخاسون يرافقون الجيوش عادة، وكثيرا ما كان يتفق بيع آلاف من الأسارى بأثمان بخسة، وذلك عقب فوز عظيم في وقعة مهمة، وكانوا يسرقون الأطفال ليبيعوهم، والنساء ليتخذوهن لقضاء الفاحشة وارتكاب الفجور.
وكان الرومانيون يعتبرون هذه التجارة مخلة بالشرف مسقطة للاعتبار، ولكنها كانت تجارة رابحة ناجحة، وكان الذين يتعاطونها يحصلون على أموال طائلة، وثروة وافرة؛ فمنهم النخاس تورانيوس الذي كان في أيام أغسطس متمتعا بشهرة فائقة وصيت بعيد.
وكانت العادة في رومة بيع الرقيق بالمزاد، فكانوا يوقفونهم على حجر مرتفع، بحيث يتيسر لكل واحد أن يراهم، ويمسهم بيده ولو لم يكن له رغبة في الشراء، وكانت العادة أن المشتري يطلب رؤية الأرقاء عراة تماما، لأن بائعي الرقيق كانوا يستعملون وجوها كثيرة من المكر لإخفاء عيوب الرقيق الجثمانية، كما يفعل اليوم الجمبازجية
21
في الخيول.
وكانت أثمان العبيد المتعلمين المتأدبين غالية جدا، ومثلهم المعدون لتشخيص الروايات، ولا تسل عن المغالاة في دفع الأثمان الزائدة لمشتري الجواري الحسان البارعات في الجمال اللاتي يجعلن لمقتنيهن حظا كبيرا في الاستحصال على كثير المال، بسبب تعرضهن للفسق والفجور، وفي عهد الدولة كان القوم يدفعون المبالغ الباهظة للاستحصال على بنات ذات دلال، وذلك حيثما ازداد فساد الأخلاق واختلت قواعد الآداب وانتشرت الزخرف فيهم إلى ما تجاوز الحدود.
وكانت رومة شبيهة ببلاد اليونان في تقسيم الأرقاء على أنواع؛ فمنهم الأرقاء العموميون،
22
ومنهم الأرقاء الخصوصيون؛ فأفراد الفريق الأول كانوا ملكا للحكومة، وكانت حالتهم أفضل وأحسن من حالة إخوانهم بكثير، فكان عليهم العناية بشأن المباني العمومية، بل ومساعدة القضاة والكهنة في القيام بواجبات وظائفهم، وكانوا يستخدمون فوق ذلك سجانين وجلادين (سيافين) وملاحين وأمثال ذلك من الوظائف، وأما أفراد الفريق الثاني فكان عليهم أن يقوموا بكافة شئون الخدمة في دور مواليهم ، كأن يكونوا بوابين وخدامين وطهاة
23
ومستخدمين لقضاء الحاجات وما أشبه ذلك.
ولم يكن في نظر القانون إلا كشيء من الأشياء، فليس له ملكية ولا عائلة ولا صفة شخصية.
وقد سبق لنا القول بأن الولادة قد تكون سببا في الاسترقاق، ولذلك كان القانون يبيح للسيد استرقاق من تلده أمته، والمقرر في الشريعة الرومانية أنه فيما عدا النكاح تكون حالة الولد شبيهة بحالة أمه حين وضعها له، بمعنى أنها إذا كانت حرة في ذلك الوقت فالولد يكون حرا، وإذا كانت رقيقة فالولد يكون رقيقا أيضا مهما كانت حالتها في أثناء الحمل، على أن هذه الشدة قد تلطفت فيما بعد وتقرر أنه يكفي في حرية المولود أن تكون أمه نالت حريتها أثناء الحمل
24 (انظر فتاوى بوستينيانوس).
وكان حق العقوبة من نتائج سلطة الموالي على أرقائهم، فكان الأرقاء الذين يأتون بهفوة يجازون عليها بالشدة، وفي بعض الأحيان بقساوة فائقة عن الحد لم يسمع لها بمثيل، فكان أخف العقوبات وألطفها عندهم استعمال الرقيق في مشاق الحراثة والزراعة، وهو مكبل بالسلاسل مثقل بالأغلال معرض لأقسى أنواع العذاب، وأما العقوبة بالجلد بالسياط فكانت في غاية القسوة ونهاية الشدة، حتى إنها كانت تنتهي بالهلاك في أغلب الأوقات، وكانوا يعاقبون الرقيق أيضا بتعليقه من يديه وربط الأثقال في رجليه.
وما زال الأرقاء يقاسون أنواع العذاب، ويعانون أصناف الأوصاب، حتى آل الأمر بواضعي الشرائع للنظر إليهم بعين الشفقة والمرحمة، وتدوين الأحكام القاضية برعايتهم، وحسن معاملتهم، وأول قانون في هذا المعنى هو قانون پترونيا، وفيه أنه يحرم على الموالي إلزام أرقائهم بمقاتلة الوحوش الضارية والحيوانات الكاسرة، على أنه قد تدون فيه أن الرقيق الذي يأتي جرما يستوجب هذا الجزاء يجوز لسيده أن يعاقبه به بعد التصريح من القاضي. وقد أصدر أنطونان
25
أمرا حصر فيه ما يسمونه بحق الحياة والممات الذي يعتبره المفتي جايوس
26
من حقوق الأمم والملل، فقال أنطونان: «إذا قتل المولى عبده بغير حق وجبت معاقبته كأنه قتل عبدا لغيره.»
27
وقد تقرر في هذا الأمر أيضا نهي الموالي عن سوء معاملة أرقائهم، ثم صدر أمر من كلوديوس تدون فيه أنه «إذا قتل السيد عبده عد مرتكبا لجناية القتل».
هوامش
الفصل الثاني
الكلام على الاسترقاق في القرون الوسطى
إن قوانين الأمم المتبربرة
1
تشابه قوانين الرومانيين في كونها تعتبر الرقيق كشيء من الأشياء، فإنها تجعله بمنزله الفرس والثور وغيرهما من الحيوانات المستخدمة الأهلية، فكان المولى في شرعهم يتصرف بعبده كما يتصرف بما عنده من الأشياء ذات القيمة، وكان يجوز له قتله، لأنه شيء من الأشياء التي تملكها يمينه، وهم فروع:
الفرع الأول: الاسترقاق عند الغاليين
2
كانت أعمال الحراثة والفلاحة في عصر سيسرون
3
من موجبات الهوان والاحتقار ودواعي الذل والصغار، ولذلك كان الأرقاء هم المنوطين بحرث الأرض والزراعة والحصد.
الفرع الثاني: الاسترقاق عند الجرمانيين
4
كانت هذه الأمة منهمكة في لعب القمار انهماكا لا حد له كما رواه المؤرخ تاسيتوس،
5
حتى كان كثيرا ما يخرج الولوع به بعضهم إلى الشطط، فيقامرون على نسائهم وأولادهم، بل وعلى حريتهم الشخصية.
أما الأرقاء الذين يحتكمهم الجرمانيون بطريقة الشراء أو الميراث، فكانوا يكلفون بخدمة المنازل، بل كان لكل واحد منهم مسكن خاص به يديره كيفما شاء، وكان المولى يفرض عليه مقدارا من القمح أو الماشية أو الملابس كأنه من مؤاجريه، وفي ذلك كان ينحصر الاستعباد عندهم.
الفرع الثالث: الاسترقاق عند الإفرنج
6
وصل الاسترقاق عندهم إلى نهاية الشدة والقسوة؛ فإن القانون السالي
7
جعل من مبدأ الأمر بين الأرقاء والأحرار من الموانع والحواجز أسوارا كثيرة، فكان التناكح بينهما غير جائز مطلقا؛ إذ في صريح القانون عندهم أنه «إذا تزوج أحد الأهالي برقيقة أجنبية وقع في الرق والاستعباد»، وكذلك المرأة الحرة التي تتزوج برقيق تفقد حريتها وينالها هذا العقاب!
الفرع الرابع: الاسترقاق عند الويزيقوط
8
قوانين النكاح عند هذه الأمة أبلغ في الشدة مما هي عند التي قبلها؛ فقد تدون بها «أن المرأة الحرة إذا تزوجت برقيقها كانت عقوبتها أن تحرق هي وإياه وهما على قيد الحياة»، وأما إذا كانت لا تمتلك العبد يفسخ النكاح ويجلد كل منهما بالسياط، ولكن الرقيق لم يكن ملكا لسيده بوجه الإطلاق، بحيث تكون حياته في يده يتصرف فيها كيفما شاء، بل كان القاضي هو الذي يحكم على العبد بالموت إذا كان يستحق ذلك، ثم يسلمه لسيده يفعل به ما يريد.
الفرع الخامس: الاسترقاق عند الأستروقوط واللومبارديين
9
وضعت أحكام صارمة عند هاتين الأمتين، فكانت المرأة الحرة التي تتزوج برقيق تعاقب بالإعدام.
الفرع السادس: الاسترقاق عند الأنجلو ساكسون
10
كانوا يقسمون الرقيق إلى صنفين عظيمين كما عند الأمم الأخرى، وهما الرقيق المشبهون بالمنقولات، والرقيق المشبهون بالعقارات، فأفراد الصنف الأول يجوز بيعهم، وأما الآخرون فكانوا لا ينفكون عن الأرض القائمين بحراثتها وزراعتها، وفي أواخر حكم هذه الأمة كان يجوز للأرقاء أن يكون لهم رأس مال خاص بهم، وكانوا يشتغلون بتحصيل ما يدفعونه لمواليهم لأجل نوال حريتهم.
وسنتكلم في الباب الرابع على الاسترقاق في الديانة النصرانية.
هوامش
الفصل الثالث
الاسترقاق في الأزمان الحديثة
إذا انتقلنا إلى الأزمان الحديثة وجدنا أن استرقاق
1
الزنوج يشبه الاستعباد عند الرومانيين من حيث الشخص المستخدم، ولكنه يخالفه مخالفة جوهرية من حيث أصله ومنشؤه؛ وذلك لأن فتوح المستعمرات لم يأت بامتلاك الأرض مع العامل الذي يحرثها، بل إنه بعد اكتشاف الأراضي صار تبديد أهاليها أو إبادتهم، فكانت الحاجة ماسة إلى إعادة السكان فيها، ولم يكن ثمة من واسطة سوى جلب الزنوج إليها.
القانون الأسود
اعلم أن هذا الاسم يطلق في جميع البلدان على مجموع القواعد والأصول المدونة بشأن الاسترقاق.
وقد صدر في 17 مارس سنة 1685 مرسوم بتنظيم أحوال الأرقاء والعتقى في جميع المستعمرات الفرنساوية، وتقرر فيه تخويل الحق المدني والسياسي للأحرار من ذوي الألوان، واعتبار العتق ولادة جديدة للمعتوق، على أن الجمعية الدستورية لما أرادت العمل بهذا المبدأ واستنباط النتائج المترتبة عليه عقلا صادفت صعوبات عنيفة ومعارضات قوية، وما ذلك إلا لأن القانون الأسود لم تنفذ منه إلا القواعد الصارمة والأحكام البالغة في الشدة، أما الأصول المقتضية حصر سلطة الموالي أو تحميلهم بحقوق لأرقائهم، فكانت مهملة متروكة كأنها لم تكن.
وإذا اعتدى الزنوج بأقل إكراه على ساداتهم، أو على الأحرار، أو ارتكبوا أخف السرقات، فجزاؤهم القتل أو العقاب البدني بالأقل، وهذا دليل كاف على ما في القانون من الشدة التي ليس بعدها شدة، وإن الإنسان ليمتلئ غيظا وغضبا إذا ذكر أنواع العقاب التي كانت موضوعة للآبقين، فقد كان عقاب الإباق في المرة الأولى والثانية قطعا للآذان ومسحا بالسوق وكيا بالحديد المحمي، وفي الثالثة القتل.
ومهما بلغت شدة هذا القانون فإنها لا تنقص عن قانون المستعمرات الإنكليزية إذا قابلناها بها، فقد تقرر في مستعمرة الجاماييك وأنتيجوا
2
أن من أبق واستمر في إباقه أكثر من ستة شهور جزاؤه الإعدام.
ومن أسوأ الأحكام التي جاء بها المرسوم الصادر في مارس سنة 1685 أنه عندما يرتكب المالك أو الرئيس أية جناية على الرقيق، ولو كانت جناية القتل، يكون للقضاة الحرية في مراعاة أحوال البراءة، وأن يبرئوا ساحة المتهمين الغائبين من غير أن تكون هناك حاجة للاستحصال على العفو، وقد كتب هيليار دوبرتوي في (ملاحظاته على مستعمرة سان دومينج)
3
أن «المرسوم الصادر في سنة 1685 لا يمنع من هلاك الأرقاء في كل يوم بسبب تكبيلهم بالسلاسل أو جلدهم بالسياط، ولا من ضربهم ضرب التلف والإزهاق، ولا من إحراقهم عسفا واستبدادا، وكل هذه الفظائع يرتكبها القوم في المستعمرة، ولا رادع يردعهم، حتى إن كل ذي لون أبيض يعامل الأسود بالغلظة والقسوة ولا حرج عليه في ذلك، وإذا ألحق ضرر بعبد من العبيد، فالقضاة اعتادت عدم النظر إلى هذا الضرر إلا من حيث إنه ينقص من ثمن العبد المجني عليه».
وقد أيدت الجمعيات الاستعمارية في كل زمان هذه القاعدة، وهي أنه لا يسوغ للمتشرعين أن يتوسطوا ويتدخلوا بالشرائع بين العبد ومولاه، وكان الأحرار من ذوي الألوان محرومين من وظائف النفوذ والاعتبار.
بل قد صدرت أوامر متنوعة من نظارات الحكومة بمنع التوسع في تأويل مواد القانون الأسود، فمنها ما كان بالنهي عن البحث في الأوراق المثبتة أن صاحبها من طائفة الأشراف متى تزوج بامرأة امتزج بها دم الأرقاء، وكان مثل ذلك الرجل يعد غير جدير بأية وظيفة في المستعمرات، بل يعتبر ساقطا من درجة ذوي اللون الأبيض، ومنها ما كانت بتحريم حضور ذوي الألوان إلى بلاد فرنسا للتغذي بألبان المعارف واقتطاف ثمرات التأديب والتهذيب، ومنها ما تضمن عبارات صريحة هذا تعريفها: «إن حسن النظام مما يوجب عدم إقلال الصغار والاحتقار المرتبط بالجنس الأسود مهما كانت درجته ومنزلته، وقد صمم جلالة الملك على إبقاء الحكم الاعتباري الذي مقتضاه أن يحرم إلى أبد الآبدين ذوو الألوان وذريتهم من المزايا الخاصة بالجنس الأبيض.» (يناير سنة 1767).
هذا كله كان جاريا في أواخر القرن الثامن عشر قبل الثورة الفرنساوية، وما زالت مواد القانون الأسود تزداد شيئا فشيئا بما يصدر من مركز الحكومة أو جهات السلطة بالمستعمرات من الأوامر ومعظمها لم يقصد به ترقية حال الرقيق ولا تحسين درجته كما رأينا، وقد صار هذا القانون أساسا لتقرير الأحكام وسن النظام في الأملاك الفرنساوية وفي الجهات المستعمرة لها، إلى أن حصلت الثورة في فبراير سنة 1848 فعملت على إبطال الاسترقاق مرة واحدة، فكان لها بذلك فخر يذكر فيشكر.
أما القوانين القديمة الخاصة بذوي الألوان، وبالأرقاء في الولايات الجنوبية من بلاد أمريكا المتحدة، المعروفة أيضا بالقوانين السوداء، فكان فيها من الشدة والصرامة ما تنقبض له النفوس، وتنفر منه القلوب؛ فقد صرحت الشريعة في ولايات لويزيانا وكارولينا
4
وغيرهما من الولايات الجنوبية أن المولى «له حق المالك المطلق على عبده»؛ فله بيعه وإجارته ورهنه وخزنه وإجراء الجرد عليه، وأن يقامر عليه، وغير ذلك من الأعمال، ولما كان العبد مسلطا عليه أبدا كان من المحتوم عليه أن يحترم سيده وأعضاء عائلته احتراما ليس بعده احترام، ويطيعهم طاعة لا حد لها (يراجع القانون الأسود لولاية لويزيانا).
أما حق مدافعة الإنسان عن شخصه، وهو من الحقوق المخولة بالطبع لكل فرد من أفراد بني آدم، فما كان للزنجي المستعبد أن يتمتع به، ذلك كما قضى القانون الأسود لولاية كارولينا الجنوبية، ولم يكن للعبد حق في الذهاب والمجيء، وما كان له أن يخرج من الزرع إلا بتصريح قانوني واف لجميع الشروط المفروضة، على أن هذا التصريح كان له آفة تذهب بالغاية منه، وذلك أنه إذا اجتمع في الطريق العام أكثر من سبعة من الأرقاء يعتبرون مخالفين للأوامر، وأول أبيض يصادفهم في الطريق له أن يلقي القبض عليهم ويجلدهم عشرين جلدة. وكان العبد معتبرا شيئا لا إنسانا، فكان الذين ينقلونه من مكان إلى آخر مسئولين عن فقده وضياعه، وعن العوارض التي تصيبه، كما كانوا يسألون عن خسارة أو تلف حمل من الأحمال أو طرد من الطرود.
هذا، وقد نص القانون على أن العبيد لا نفس لهم ولا روح، وقضى بأن لا فطانة ولا ذكاء لهم، ولا إرادة، وما كانت الحياة تدب إلا في أذرعتهم فقط.
فمن ذلك يتضح أن حرية الزنجي كانت معدومة لا وجود لها، ولكن في نظير ذلك كانت مسئوليته عظيمة جدا، فكان يعتبر شيئا من الأشياء فيما يختص بحقوقه، وأما فيما يتعلق بالواجبات المفروضة عليه فإنه كان يعود له اعتبار الصبغة الآدمية والصفة البشرية، وكان القوم يعتبرونه حرا كلما كانت حريته تسوغ الحكم عليه بالسوط أو بالموت، وكان القانون ومشيئة المولى يفرضان عليه واجبات كثيرة، ويلزمانه بأمور متعددة، ويعاقبانه بالشدة والصرامة إذا ظهر منه العصيان، وكل ما يعتبر جناية من الأبيض فهو كذلك بالنسبة إلى الأسود من غير عكس، فيعاقب القانون الزنجي على جنح وجنايات يفعلها، ولا يسوغ معاقبة الأبيض عليها إذا وقعت منه، وما هذا إلا لمجرد اللون، ولذلك كانت العقوبات مختلفة اختلافا بينا بحسب الحكم بها على الأسود أو على الأبيض، وكان القانون العادي يحكم بالإعدام على كل زنجي يضرب ويجرح مولاه أو مولاته أو أولادهما أو يبتر عمدا عضوا من أعضاء شخص أبيض، أو يعود لضرب أبيض مرة ثالثة، أو يسرق أو يرفع لواء العصيان، أو يرتكب ما أشبه ذلك من الجرائم، ويحكم بالجلد على كل من كان سائرا بلا تصريح أو يغضب مولاه بسبب ما أو غير ذلك.
وفي الولايات الجنوبية المختلفة كان العتقى واقعين تحت طائلة القوانين الصارمة المسنونة لأجلهم، فما كان لهم قبل إبطال الاسترقاق أن يشهدوا في قضية ما إلا إذا دعوا للشهادة على الأرقاء أو على أمثالهم، ومع ذلك فما كان يجوز تحليفهم اليمين القانونية، لأنها أشرف وأسمى من أن يتفوهوا بها فيدنسوها بتفوههم، وكان لا يجوز لهم حمل السلاح، ومن خالف هذا النهي حكم عليه بالجلد، وقد ورد في نص القانون نفسه أنهم لا يجوز لهم أن يستروا جلودهم إلا بثياب من القماش الخشن الدنيء، حتى يكون في ذلك إعلام بشأنهم لمن يراهم من بعيد؛ مثل الليمانجية (المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة)، وكان ذو اللون الذي يسب الأبيض أو يضربه يعاقب بالحبس والغرامة، فإذا كان الأبيض هو الذي سبق بضربه ثم تجارأ هو بالدفاع عن نفسه، وقتل المعتدي عليه حفظا لحياته، كان يعتبر مرتكبا لجريمة القتل، وواقعا تحت العقاب الذي تستوجبه، ولم يقتصر القانون على هذه النصوص والأحكام، بل حرم عليهم تقريبا حرية المرور، ولم يكن لهم الحق في طلب ورقة الجواز،
5
وكان لونهم سببا للريبة في أمرهم والاشتباه في أحوالهم، لأنه يجعلهم بمثابة الأرقاء، فلذلك ما كان يجوز لهم أن يسافروا خارج الحي المتوطنين به، لئلا يعرضوا أنفسهم للحبس والإهانة من ذوي اللون الأبيض، فإنهم يمكنهم أن يسرقوهم ويبيعوهم، وفي بحر سنة 1859 اقترعت الجمعية التشريعية في ولاية أركانزاس
6
على قانون مقتضاه نفي جميع ذوي الألوان من أراضيها، ثم ضبطت الحكومة جميع المنفيين الذين لم يتح لهم مفارقة مواطنهم قبل أول يناير سنة 1860 وباعتهم أرقاء في المزاد العمومي، وقد حصل مثل ذلك أيضا في ولايتي ميسوري
7
ولويزيانا وغيرهما.
أما الذين كانوا يسعون في إبطال الاسترقاق، وينادون بوجوب إلغائه، فأولئك كانوا موضوعا للاحتقار والإهانة بنوع خاص في مواد القانون الأسود، وكان الإعدام جزاء لكل من أشار على أحد الأرقاء أو على جماعة منهم بالهيجان وخلع الطاعة، سواء كان ذلك بقول أو فعل أو كتابة أو بغير ذلك من الطرق الأخرى، وكان الإعدام أو الأشغال الشاقة مؤبدا جزاء لكل من نشر رسالة أو كراسة أو مطبوعا في أي موضوع من شأنه إحداث السخط وعدم الرضى بين الأحرار من السود، أو تحريض الأرقاء على عدم الامتثال، وكان الإعدام أو الأشغال الشاقة من خمس سنين إلى إحدى وعشرين سنة عقابا لكل من قال مقالا أو أشار إشارة أو عمل عملا من شأنه أن يثير الغيظ في قلوب الزنوج الأحرار أو الأرقاء، وكذا كل من أدخل بعمله في أرض الحكومة جرائد أو كراسات أو كتبا مؤلفة بالطعن في الاسترقاق.
هذه هي أخص الأحكام التي كانت مدونة في القانون الأسود قبل أن تهيج الحرب المدنية التي خربت الولايات المتحدة سنين متوالية مبدؤها سنة 1862، وهي تأتينا بالنبأ الصادق والدليل الواضح على ما كان يجول في خواطر واضعي القوانين نحو الأرقاء والمستبعدين، ولكن الزنوج أصابوا من الحروب غنيمتهم، ألا وهي الحرية، ونعمت النعمة.
هوامش
الفصل الرابع
الاسترقاق في الديانة النصرانية
هل تمكنت الديانة النصرانية من إلغاء الاسترقاق أو من تلطيف شدته وتخفيف وطأته؟ حقا جاء في الإنجيل أن الناس كلهم يعتبرون إخوانا، وأنه يجب عليهم أن يحب بعضهم بعضا، لكن لا تجد فيه نصا صريحا ضد الاسترقاق، وهذا الأمر الذي لم يأت به عيسى عليه السلام لم يأت به الحواريون من بعده، فلا ترى طائفة من الطوائف المسيحية قالت بتحريم الاسترقاق، وكان الأمر كذلك عند الكنائس المختلفة التي تولدت من هذه الطوائف، وهي الكنيسة الرومانية اليونانية (الرومية) والكنيسة الكاثوليكية ثم البروتستانت.
وقد أوصى بولس
1
الأرقاء في رسالته التي بعث بها إلى الأفسيين
2
أن يطيعوا مواليهم مع الخوف والرعب كما يطيعوا المسيح عليه السلام، وقد أمر الأرقاء في رسالته الأولى إلى تيموثاوس
3
أن يعتبروا ساداتهم أهلا لكل تشريف وتبجيل، وأوصى مواليهم من النصارى بأن يبالغوا في حسن القيام بخدمتهم، ثم قال بأن هذه هي تعاليم يسوع المقدسة، وأنها منطبقة على التقوى، ثم وصف بالكبرياء والجهالة كل من علم بغير ذلك، ولكنه من جهة أخرى يوصي الموالي باتباع خطة الإنصاف في معاملة أرقائهم، وأوصى في رسالته إلى تيطس
4
بأن يستجلبوا رضا مواليهم في كل أمر؛ تعظيما وتمجيدا لتعاليم المخلص (سيدنا عيسى عليه السلام)، وقد أوصى الحواري بطرس
5
الأرقاء في رسالته الأولى بأن يكونوا خاضعين لمواليهم وأن يخشوهم.
ولما جاء آباء الكنيسة على إثر الحواريين اقتفوا أثرهم، وساروا على سننهم، فأباحوا الاسترقاق وأقروه.
فقد استند القديس سيپريانوس
6
والبابا القديس غريغوريوس الأكبر
7
على ما قاله القديس بولس وصرح بضرورة الإقرار على الاستعباد، وقال القديس باسيلوس
8
بعد أن أورد ما جاء في الرسالة إلى أهل إفسس ما تعريبه: «وهذا يدل على أن العبد يجب عليه طاعة مواليه بقلب سليم تمجيدا لله العلي العظيم.» وقال القديس إيزيدوروس
9
من پيلوزة (الطينة بالقرب من الفرما) مخاطبا للرقيق: «إني لأنصحك بالبقاء في الرق حتى ولو عرض عليك مولاك تحريرك، فإنك بذلك تحاسب حسابا يسيرا، لأنك تكون خدمت مولاك الذي في السماء، ومولاك الذي في الأرض.» وقال القديس توماس من مدينة إكوين:
10 «إن الطبيعة خصصت بعض الناس ليكونوا أرقاء.» وأيد ما ذهب إليه بالعلاقات المختلفة التي تجعل بعض الأشياء خاضعة لبعضها حسا ومعنى، واستشهد على ذلك بالشريعة الطبيعية والشريعة الإنسانية (الوضعية) والشريعة الإلهية، وبما ذهب إليه الفيلسوف أرسطاطاليس.
وقد استنتج بوسويي
11
من الفوز والانتصار حق قتل المكسور المقهور، ولذلك يقول: إن استعباد ذلك المغلوب نعمة ورحمة.
ولم تتغير آراء الكنيسة فيما يتعلق بالاسترقاق من عهد بوسويي إلى يومنا هذا، ونحن نستشهد على ذلك بما أورده بعض علماء اللاهوت المتأخرين الموثوق بأقوالهم المعتد على آرائهم.
قال بايي
12
بصحة الاسترقاق معتمدا على ما ورد في الإصحاح الحادي عشر من سفر الخروج، والإصحاح الخامس عشر من سفر الأحبار،
13
وعلى تعريفات مختلفة جاءت في قوانين الكنائس، وقال: إن الإنسان لا يجوز له أن يبيع نفسه، وأن الحرب يترتب عليها حق استعباد العدو واسترقاقه، وفي أيامنا هذه قد أقر نيافة بوفييه أسقف المان
14
على الاسترقاق في (فتاواه اللاهوتية) المتخذة أساسا للتعليم في الأديرة، بل إنه اعتبر فوق ذلك أن النخاسة تجارة محللة، وقد نحا هذا النحو أيضا جناب الأب ليون في كتابه (العدل والحق)، وقد أثبت جناب الأب فوردينيه رئيس دير الروح القدس أن الاسترقاق من جملة النظام المسيحي، وصرح بذلك في كتاب تعليم الديانة المسيحية المخصص للخورنيات
15
بالمستعمرات الفرنساوية، وقد نشر هذا الكتاب في سنة 1835 بتصديق من المجلس الديني في رومية، وقال الأب بوتان (في صحيفة 89 من كتابه الذي اسمه فلسفة الشرائع، المطبوع في سنة 1860): «إن ما يتعلق بالحوادث متغير، وحينئذ فالاسترقاق الذي يباح في بعض الأحوال قد لا يباح في البعض الآخر، وهو في كلا الأمرين صحيح موافق للديانة.» وقد أثبت الموسيو پاتريس لاروك في كتابه الذي عنوانه (الكلام على الاسترقاق عند الأمم النصرانية، المطبوع في باريس سنة 1864) أن الديانة العيسوية لم تحرم الاسترقاق نصا ولم تلغه عملا، وأيد قوله بما ورد عن القديسين من النصوص التي سردناها وبغيرها.
وقد قال پييرلاروس
16 (في المعجم العام الكبير للقرن التاسع عشر، المطبوع في باريس سنة 1870، جزء 7، حرف
E ، صحيفة 857، عمود 2، فقرة 2): «لا يعجب الإنسان من بقاء الاسترقاق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم، فإن نواب الديانة الرسميين يقرون على صحته ويسلمون بمشروعيته.»
وقد ذكر أيضا أن بعض القسس المسيحيين قد اجتهدوا في تخفيف مصائب الاسترقاق، فساعدوا على العتق والتحرير، ولكن ذلك إنما هو محض اجتهاد ذاتي لا ينقض ما سبق لنا تقريره.
ثم قال: وخلاصة الكلام في هذا المقام أن الديانة المسيحية قد ارتضت الاسترقاق ارتضاء تاما إلى يومنا هذا، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنها سعت في إبطاله، بل قد لزم ظهور أفكار أخرى وانتشار مبادئ جديدة حتى تم إلغاؤه، فهي الثورة الفرنساوية التي أعدمته بما بنته من مبادئ الحرية، وما نادت به من: «إن جميع الناس متساوون لدى القانون.»
هوامش
الفصل الخامس
الاسترقاق عند أهل الإسلام
تمهيد
ظهرت الديانة المحمدية، وكان الاسترقاق ضاربا أطنابه عند الجاهلية من الأعراب، كما كان منتشرا عند غيرهم من الأقوام.
فإن قيل: هل أقرته الديانة على ما كان عليه؟ قلنا: ينبغي قبل الإجابة على هذا أن نلاحظ أولا حال الزمان والمكان اللذين ظهر فيهما الإسلام.
وذلك أنا بينا في مبدأ هذه الرسالة أن طبيعة الإقليم كان لها دخل في اتساع نطاق الاسترقاق بالمشرق أكثر منه بالمغرب، وأتينا على ذكر السبب في ذلك.
ولما كان منشأ الديانة المحمدية ببلاد العرب، فلا يصعب الوقوف على ما كانت عليه درجة الاسترقاق عند أهل هاتيك البلاد وشغفهم به، ومن جهة أخرى فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
لقي في مبدأ رسالته، بل وفي كل أيامها، شدائد ومقاومات بالسلاح وغيره في سبيل نشر الدين الحنيفي، فإن من أصعب الأعمال - ولا جدال - ما قام به عليه الصلاة والسلام من إخراج الأعراب من ظلمات الجهالة التي كانوا هائمين فيها، ومقاومة الشرك بالله وعبادة الشمس والكواكب لأجل تعليمهم الاعتقاد بإله واحد، وترك ما كان عليه آباؤهم من الأباطيل والأضاليل، وهدايتهم إلى طريق الفضائل، وحثهم على رعايتها واتباع سنتها، فكم من مرة تصدى له
صلى الله عليه وسلم
زعماء القبائل وهددوه وتوعدوه لاستنكافهم ترك ما تتوق إليه أنفسهم من الاستقلال، وكراهتهم لكل سلطان يكون عليهم لرسول قد بعثه الله عز وجل.
وبهذا يتضح ما كان عليه هياج الأفكار، وثورة الخواطر في تلك الأيام، وحينئذ نقول: لما كان النهي عن أمر ألفته الطباع أعواما بل أجيالا، واعتادته الأخلاق حتى امتزجت به مما يزيد في ذاك الهياج وتلك الثورات، فلا ينطبق بالضرورة على قواعد الحكمة والتدبير، ولا يوافق المصلحة والنظام، لم تأمر الديانة الإسلامية بإلغاء الاسترقاق مرة واحدة، ولكنها لم تقره على ما كان عليه، لأن أصولها العمومية لم تكن لتنطبق على ما كان جاريا في ذلك العهد، فعملت على إنضاب منبعه، وتقليل أثره من الوجود، وحصره في حدود ضيقة على وجه يخالف تماما ما كان عليه في تلك الأيام.
قال العلامة جوستاف لوبون في كتابه الذي سماه «تمدن العرب» ما تعريبه: «إن لفظة الرق إذا ذكرت أمام الأوربي الذي اعتاد تلاوة الروايات الأمريكية المؤلفة منذ نحو ثلاثين سنة من الزمان ورد على خاطره استعمال أولئك المساكين المثقلين بالسلاسل المكبلين بالأغلال، المسوقين بضرب السياط، الذين لا يكاد يكون غذاؤهم كافيا لسد رمقهم، وليس لهم من المساكن إلا حبس مظلم، وإني لا أقصد أن أتعرض هنا للبحث عن صحة هذا الوصف وانطباقه حقيقة على ما كان واقعا من الإنكليز في أمريكا منذ سنين قليلة، وعما إذا كان من الأمور المحتملة أن مالك الأرقاء قد قام بفكره أن يسيء معاملتهم، ويذيقهم العذاب والهوان، بما يكون فيه تلف لبضاعة غالية مثل ما كان الزنجي في ذلك الزمان، أما الحق اليقين، فهو أن الرق عند الإسلاميين يخالف ما كان عليه عند النصارى تمام المخالفة.»
إلا أن الإسلام قد ابتدأ بتقرير هذه القاعدة:
إن المسلم المولود من أبوين حرين لا يجوز استرقاقه في أي حال من الأحوال.
ولعمري، إن في هذه القاعدة مزية كبرى وفائدة عظمى، لأنها تخرج من هذا الظلم الفاحش المهين قسما عظيما من العائلة البشرية.
وهذه القاعدة هي - والحق يقال - مفتاح لحل المسألة المعضلة التي حق للعالم المتمدن أن يشتغل بها في هذا الزمان.
أفلا تسعى الدول الأورباوية في البحث عن الطرق الفعالة التي يكون بها إلغاء النخاسة؟ إذا كان ذلك كذلك، فلعمري إنها ما عليها إلا أن تساعد مصر التي هي عنوان فخار الإسلام في أفريقيا على نشر التمدن، وبث الحضارة بين قبائل هذه القارة بواسطة الديانة الإسلامية، ومتى صار أولئك الوثنيون الفتشيون
1
مسلمين تلاشت النخاسة من نفسها، وبطبيعتها، حيث إن الاسترقاق لا يجوز بين أهل هذا الدين، بل قد ورد في القرآن الشريف نهي لهم عن مقاتلة بعضهم بعضا قال تعالى:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (سورة الحجرات 49 - آية 9).
الفرع الأول: في منبع الاسترقاق
الحرب هي المنبع الوحيد للاسترقاق، ولكن لا على إطلاقه، بل ذلك مقيد بشرطين: أحدهما أن تكون الحرب قانونية منتظمة، والآخر أن يكون القتال مع القوم الكافرين.
قال الله عز وجل في كتابه المنزل على نبيه المرسل:
قاتلوا - أي: قتالا قانونيا -
الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله - يعني الخمر والميسر -
ولا يدينون دين الحق - لا يدينون بدين الإسلام -
من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية - إن لم يسلموا - الآية (في هذه الآية تمييز بين الوثنيين والكتابيين).
ولذلك كان المسلمون قبل أن يفتحوا بلدا من البلدان يبعثون إليها وفودا للمداولة في شأن الصلح، ويقترحون أمورا تكاد تكون واحدة في كل البلدان والأقطار، وذلك أنهم يقولون ما معناه: «قد أمرنا رئيسنا بقتالكم إذا لم تقبلوا شريعته، فكونوا منا تكونوا إخوانا لنا، واتبعوا ما فيه صالحنا، واقتدوا بشعائرنا حتى لا يمسكم سوء منا، فإن لم تفعلوا فادفعوا لنا جزية سنوية في مواقيت معينة ما دمتم على قيد الحياة، ونحن نقاتل كل من يريد أن يلحق بكم ضيرا أو ضررا، وكل من يعاديكم بأي وجه من الوجوه، ونحافظ على محالفتكم بالصدق والأمانة، فإن أبيتم هذا أيضا، فليس بيننا وبينكم سوى الحرب، ولا نزال نصلي عليكم نار الوغى حتى نتمم ما أمرنا به الله عز جل.»
ومتى قبل الكفار بأحد هذين الشرطين، وفاهم المسلمون عهودهم وأنجزوا معهم وعودهم، ولم ينحرفوا قط عن هذا السير المحمود، وكانوا يعاملون المغلوبين المكسورين باللطف والمجاملة، وشاهدنا على ذلك ما فعله الخليفة عمر بن الخطاب
2
رضي الله عنه في بيت المقدس
3 (مدينة أورشليم) فإنه لم يرض بالدخول في هذا البلد الحرام إلا بفئة قليلة من أصحابه، وطلب إلى البطريرك صفرنيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن الدينية المقدسة، ثم أعلن الأهالي بأنهم في أمان تام، وأن أموالهم وكنائسهم ستكون محفوفة بالرعاية والاحترام، وأن المسلمين لن يصلوا في الكنائس النصرانية.
ولكن الحرب كانت هي الحكم الوحيد إذا أبى الكفار الرضوخ للشروط التي يقترحها المسلمون، فإذا دارت الدائرة على الكفار صاروا في هذه الحالة فقط أرقاء للغالبين، بعد أن يصرح الخليفة بذلك تصريحا خصوصيا.
ولكن ذلك لا ينبني عليه حرمانهم إلى الأبد من الرجوع إلى ربوع الحرية، فإن الحالة التي وقعوا فيها يمكنهم التخلص منها، لأن أبواب الرحمة لا تزال مفتوحة لهؤلاء المساكين؛ إذ يجوز لهم أن يفتدوا أنفسهم بدفع مبلغ معين، كما أن للخليفة أن يطلق سراحهم لوجه الله تعالى، فقد ورد في القرآن الشريف، خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها
الآية (سورة محمد 47 - آية 4).
فمن ذلك تتضح ضرورة مراعاة هذه القواعد التي بسطناها، حتى يتيسر استرقاق الإنسان، ومن خالف ذلك وهو عالم متعمد ارتكب إثما عظيما، واستحق جزاء شديدا، فقد ورد عن أبي هريرة
4
رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «قال الله: ثلاثة (من الناس) أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي (أي أعطى العهد باسمي) ثم غدر، ورجل باع حرا، فأكل ثمنه (وفي حديث عبد الله بن عمر
5
عن أبي داود:
6
ورجل اعتبد محررا)، ورجل استأجر أجيرا، فاستوفى منه (العمل) ولم يعطه أجره.»
وفضلا عن ذلك فقد كان المسلمون يرجعون في النادر إلى ما خوله لهم دينهم من الحق في استعباد أسارى الحرب، وكانوا يكتفون بضرب الجزية عليهم.
فمن ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
صالح نصارى نجران
7 (قريبا من اليمن) على جزية سنوية قدرها ألفا ثوب، وكذلك صالح الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصارى بني تغلب على جزية فرضها على كل رجل منهم توازي ضعف ما كان مضروبا على كل رجل من المسلمين، ولم يخرج عمرو بن العاص
8
رضي الله عنه في مصر عن هذه الجادة الحميدة، فإنه اقترح على السكان أن يبقى لهم كمال حريتهم الدينية، وإقامة العدل بالقسط والإنصاف من غير ما غرض ولا تشيع، وعدم انتهاك حرمة المنازل والأملاك، واستبدال الضرائب الفادحة غير العادلة التي فرضها ملوك الروم بجزية سنوية قدرها ديناران (15 فرنكا)
9
على كل واحد منهم.
وفي أيامنا هذه نرى الحكومات الإسلامية تعامل أسارى الحرب بمقتضى أصول قانون الملل، ولا تجري عليهم أحكام الشريعة الدينية.
فظهر مما تقدم بيانه أن الاسترقاق عند المسلمين ليس له إلا مصدر ومنشأ واحد، وهذا المصدر يحصره في حدود ضيقة مع أن مصادره ومنابعه عند الأمم الأخرى كانت كثيرة متنوعة.
ففي رومة مثلا كان الاسترقاق يصيب أسارى الحرب، وأولاد الأرقاء والأشخاص الذين قضت بعض أحكام القانون باستعبادهم، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن النخاسين لم يصاحبوا قط الجيوش الإسلامية لسرقة أولاد المغلوبين واستعبادهم وتعريض نسائهم للعساكر لأجل قضاء الأوطار منهم، كما كان ذلك حاصلا في رومة.
فإن الديانة المحمدية لم تسمح قط بارتكاب أمر فظيع مثل هذا؛ ولذلك يحكم العقل بداهة بأن لا صحة لقول من يزعم بأن نصوص الدين الإسلامي الشريف تؤيد وتبرر ما هو حاصل على قولهم في أواسط أفريقيا، من اصطياد الرقيق ومعاملتهم بالبشاعة والشناعة والفظاعة، فإن هذا الدين قد جاء بالعرف والنهي عن المنكر كما لا ينكر.
الفرع الثاني: في معاملة الرقيق
إن ما امتازت به الهيئة الاجتماعية في بلاد المشرق هو أنها بقيت على حالها التي كانت عليها،
10
فالعبد هو على الخصوص خادم يعتبر كفرد من أفراد العائلة التي هو فيها، فهو أقرب إلى مولاه من الخادم عند أهل أوربا.
ولا يكاد الإنسان يجد عند المسلمين ذلك الحد الفاصل الذي يجعل بين السيد وبين عبده بونا عظيما، وفرقا جسيما، فليس الاسترقاق موجبا لشيء من الهوان والصغار، كما أن الرقيق ليس من الذين سقطوا عن درجة الاعتبار، وحل بهم العار، فلفظتهم الجمعية الإنسانية واعتبرتهم خارجين عن دائرتها، بل تجب معاملته بالرفق واللين، فقد ورد في الكتاب المبين:
وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل
11
وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا - أي متكبرا على الناس من أقاربه وأصحابه وجيرانه وغيرهم ولا) يلتفت إليهم) -
فخورا - أي يتفاخر عليهم بما أتاه الله. (سورة النساء 4 - آية 36).
ومن تأمل في الشريعة رأى فيها ما يدل على شدة الرغبة في تخفيف الحد والعقوبة التي تصيب الأرقاء، قال تعالى:
فإذا أحصن - أي: الفتيات المؤمنات -
فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب (سورة النساء 4 - آية 25).
12
فيالله تلك العناية بهذه الطائفة المستضعفة!
ومن نظر إلى الأحاديث النبوية الشريفة رآها مشوبة بالتعطف والحنان.
انظر إلى ما رواه الإمام علي كرم الله وجهه عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم»، وعن طريق أم سلمة: «اتقوا الله في الصلاة وفيما ملكت أيمانكم»، تر أن مراقبة المالك لله سبحانه وتعالى وخشيته منه في معاملة عبده مجعولتان بمنزلة المراقبة والخشية المفروضتين عليه في القيام بواجب الصلاة، وهي عماد الدين ومن أهم أركان الإسلام.
وفضلا عن ذلك فقد روي أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يقول في مرضه: «الصلاة وما ملكت أيمانكم.» وكانت هذه آخر كلمة نطق بها قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.
13
وقد جاء في الحديث الشريف ما فيه زيادة التصريح والتعريف؛ فقد روى ابن عمر عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «اتقوا الله في الضعيفين: المملوك والمرأة.» وفي الأثر الكريم: «لقد أوصاني حبيبي جبرائيل
14
بالرفق بالرقيق، حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم.» أو كما قال.
فهل يصح في شرع العقلاء بعد وقوفهم على هذه الشعائر الغراء أن يتهموا الديانة الإسلامية السمحاء بالتوحش والهمجية؟!
وليس هذا ما في وسعناه إيراده، فقد ورد عن صاحب ديننا الحنيف القويم أنه قال: «إخوانكم (أي مماليككم إخوانكم) خولكم (بفتح الخاء المعجمة والواو، أي خدمكم؛ لأنهم يتخولون الأمور، أي يصلحونها، ومنه الخولي لمن يقوم بإصلاح البستان أو التخويل التمليك) جعلهم الله تحت أيديكم (أي ملككم إياهم) فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس (أي من جنس كل منهما، والمراد المواساة لا المساواة من كل وجه نعم، الأخذ بالأكمل وهو المساواة - كما فعل أبو ذر - أفضل
15
فلا يستأثر المرء على عياله وإن كان جائزا، قال النووي:
16
يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص، سواء كان من جنس نفقة السيد أو فوقه، حتى لو قتر على نفسه تقتيرا خارجا عن عادة أمثاله؛ إما زهدا أو شحا، لا يحل له التقتير على المملوك وإلزامه بموافقته إلا برضاه )، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم عليه»؛ لأنه ورد في حديث آخر: «إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم.»
17
وقد ثبت الرسول
صلى الله عليه وسلم
هذه الأقوال الجميلة المستعذبة بقوله
صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة خب ولا متكبر ولا خائن ولا سيئ الملكة.»
18
ثم قوى ذلك أيضا بحكم صريح؛ إذ نهى عن التمثيل بالعبيد، وأوجب العتق على من فعل ذلك، فقد روى لنا ابن جريج أن زنباعا وجد غلاما له مع جارية له فجدع أنفه وجبه،
19
فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: من فعل هذا بك؟ قال: زنباع، فدعاه النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: كان من أمره كذا وكذا. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (للغلام): اذهب فأنت حر. فقال: يا رسول الله، فمولى من أنا؟ فقال: مولى الله ورسوله.
وليتأمل القارئ إلى سؤال المجدوع (مولى من أنا؟) حتى يقف على مقدار أهميته التي لا يراها الإنسان لأول وهلة، فإن الإجابة التي أجابه بها عليه الصلاة والسلام هي تعهد أخذه على نفسه بالقيام بمئونة المعتوق إذا لم يستطع نوال ما فيه سد رمقه، ولذلك لما قبض عليه الصلاة والسلام جاء مولى الله ورسوله إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: «وصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» فقال: «نعم، تجري عليك النفقة وعلى عيالك.» فأجراها عليه وعلى عياله حتى قبض، فلما استخلف عمر رضي الله عنه جاءه فقال: «وصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» قال: «نعم، أين تريد؟» قال: مصر، قال: فكتب عمر إلى صاحب مصر أن يعطيه أرضا يأكلها.
20
وقد كانت رعاية الرقيق والعناية بشأنه بالغتين أقصى درجة الشفقة والمرحمة، فقد قال ابن عمر: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه.» وفي مذهب أبي حنيفة
21
رضي الله عنه أن الحر يقتل بالعبد، وظاهر حديث ابن عمر أن الضرب واللطم يقضيان العتق من غير فرق بين القليل والكثير والمشروع وغيره، ولم يقل بذلك أحد من العلماء، فهل يستنبط من ذلك أنه لا يجوز مس العبد مطلقا؟ كلا، فقد دلت الأدلة وأجمع العلماء على أنه يجوز للسيد أن يضرب عبده لا للتمثيل به بل لتربيته وتأديبه، ولكنه لا يجوز له على كل حال أن يجاوز به عشرة أسواط.
ولكن هناك حالة يجوز فيها ضرب العبد، وهذا إذا قصر في أداء واجباته الدينية، فقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «اضرب عبدك إذا عصى الله، واعف عنه إذا عصاك.» أو كما قال.
نعم كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يكثر من وصاية أتباعه بالعفو عن الرقيق، فقد روى ابن عمر أن رجلا جاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال له: إلى كم أعفو عن عبدي؟ فلم يجبه عليه الصلاة والسلام بشيء، فأعاد عليه السؤال مرة ثانية وثالثة، ولم يجبه
صلى الله عليه وسلم
بشيء، ولما سأله المرة الرابعة صاح في وجهه وقال: اعف عن عبدك سبعين مرة في كل يوم إذا أردت نوال الأجر والثواب. أو كما قال.
22
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن تحقير العبد والاستهانة به بتذكيره ما هو فيه من الاستعباد، فقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يقل أحدكم عبدي، أمتي، وليقل فتاي، وفتاتي وغلامي.» وقد استند أبو هريرة على هذا الحديث، فقال رضي الله عنه: «لا تقل عبدي لأننا كلنا عبيد الله.» ورأى رضي الله عنه رجلا على دابته وغلامه يسعى خلفه، فقال له: «احمله خلفك يا عبد الله، فإنما هو أخوك، وروحه مثل روحك.»
وقد جاء في كلام الإمام علي
23
كرم الله وجهه ما هو خليق باسمه من العلو والسمو وجدير به من كرم الأخلاق وحسن الشمائل، فقد قال: «إني لأخجل من نفسي إذا استعبدت رجلا يقول الله ربي.» أليس هذا الكلام صادرا عن نفس زكية أبية؟!
وقد أوصى عليه الصلاة والسلام المولى بأنه إذا أتاه خادمه (حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى) فليجلسه معه ليأكل، أو فليناوله لقمة أو لقمتين. أو أكلة أو أكلتين، فهلا يرى المنصف في ذلك سعيا في أحكام التقريب، واستكمال الاتصال بين السيد ومولاه؟!
وقد ورد الشرع الشريف بالحث على تعميم التربية والتعليم ونشر أنوارهما وفوائدهما في كل مكان، على كل إنسان، لا يستثنى من ذلك الأرقاء ولا العبدان، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «من كانت له جارية فعلمها وأحسن إليها وتزوجها كان له أجران في الحياة الأخرى: أجر بالنكاح والتعليم، وأجر بالعتق.»
24
فهلا ترى في ذلك دليلا قاطعا وبرهانا ساطعا على أن الشريعة الإسلامية لا تحث فقط على معاملة الرقيق بالحسنى، بل تأمر أيضا بتهذيبه وتأديبه؟!
ونشهد الآن بالتاريخ، ونذكر بعض الحوادث الصادقة الصحيحة فنقول:
لما كان أبو عبيدة
25
رضي الله عنه محاصرا بجيشه كله لبيت المقدس، وقد ضيق على المدينة وأهلها، رضي صفرونيوس البطريرك بالتسليم، وطلب أن يتخابر في الشروط مع الخليفة عمر بن الخطاب نفسه، فقبل الخليفة رضي الله عنه هذا الطلب، وجاء إلى المقدس الشريف ومعه غلامه، ولم يكن لهما إلا ناقة واحدة، فكانا يركبانها الواحد بعد الآخر، إلى أن اقتربا من المدينة، وجاء الدور للعبد، فأركبه الخليفة وسعى خلفه على أقدامه، بهذه الحالة، حتى وصل إلى معسكر أبي عبيدة، فخشي هذا أن أهالي بيت المقدس يحتقرون الخليفة لهذا السبب، فقال له ما معناه: «إني أراك تصنع أمرا لا يليق؛ فإن الأنظار متجهة إليك.» فقال عمر: «لم يقل ذلك أحد قبلك، وكلامك هذا يجلب اللعنة على المسلمين، وقد كنا أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزنا الله بالإسلام، ومهما نطلب العز بغيره يذلنا الله تعالى.»
26
ولما تولى أبو عبيدة هذا القيادة العامة على الجيوش الإسلامية في بلاد الشام أرسل لافتتاح حلب مائة رجل من صفوة قريش (وهي قبيلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ) وجعل رئيسهم زنجيا.
وهناك شواهد أحسن من التي سبق لنا إيرادها، فقد ورد في التاريخ أن أسامة بن زيد كان مولى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكان يحبه كثيرا، وكان يقعده وهو صغير هو والحسن بن علي على ركبتيه ويلاعبهما ويقبلهما ويدعو لهما، فلما كبر أسامة ورأى فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعدادا لقيادة الجنود، أمره على جيش أرسله في السنة الحادية عشرة من الهجرة لفتح فلسطين، وكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما (وهما اللذان توليا الخلافة بعد وفاته عليه السلام) في هذا الجيش تحت إمرته، ولكنه اضطر إلى العود للمدينة المنورة لجملة أسباب؛ منها مرض مولاه عليه الصلاة والسلام، فدخل إليه وكان مريضا لا يتكلم، وقد ثقل عليه المرض، فجعل يرفع يده الشريفة إلى السماء ويضعها عليه للدعاء، حتى إذا قبضه الله إليه وعلمت الأعراب خبر انتقاله إلى دار البقاء نكصوا على أعقابهم مرتدين، وخلعوا حلية هذا الدين، فرأى أبو بكر رضي الله عنه أن أول واجب عليه هو الاهتمام بملاقاة هذه الثورة قبل أن يستفحل أمرها ويتفاقم شرها، فعمل بوصية رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأبقى أسامة على رأس الجيش، وأمره بالزحف على الثائرين من أهل الردة، ولكن الأنصار قالوا لعمر: قل لأبي بكر أن يولي أمرنا أقدم سنا من أسامة. فلما أبلغه الرسالة أخذ أبو بكر بلحيته وقال: «ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله وتأمرني بعزله؟» ثم خرج أبو بكر حتى أتى الجنود وشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب، فقال له أسامة: «يا خليفة رسول الله، لتركبن أو لأنزلن.» فقال: «والله لا نزلت ولا ركبت،
27
وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله ...» وعند الرجوع قال لأسامة: «إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل.»
28
فأذن له، ثم أوصاهم فقال: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا
29
ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.» إلخ، وأوصى أسامة بما أمر به
صلى الله عليه وسلم .
30
وعندما جاء عمرو بن العاص لفتح مصر بعث إلى المقوقس عظيم القبط وعاهل الروم على مصر الوسطى وفدا تحت رئاسة زنجي اسمه عبادة بن الصامت
31
ليتخابر معه في شأن الصلح، فلما قدم الوفد على المقوقس تقدم عبادة في صدر أصحابه، فهابه المقوقس لسواده وعظم جثته، وقال: «نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني.» فأجابوا: «إن هذا أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره، وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله.» فقال المقوقس: «وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون هو دونكم؟» فقالوا: «كلا، إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة، ورأيا وعلما، وليس ينكر السواد فينا.» وحينئذ أذعن المقوقس لسماع أقواله وطلباته.
32
فما أوردناه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشواهد التاريخية يحق لنا الأمل بأن حضرة الكردينال لافيجري يدرك أن الأرقاء لهم في البلاد الإسلامية نفس الحقوق التي يتمتع بها الأحرار، وأنه لم يصب صوب الصواب حينما جاهر «بأن المسلمين يعتقدون ويعلمون بأن الزنجي ليس من العائلة البشرية، وأن مقامه يكون بين الإنسان والحيوان، بل إن بعضهم يجعلونه أدنى من الحيوان»!
الفرع الثالث: في نكاح الأرقاء
لا يكاد الإنسان يتمالك، من الغيظ والحنق، إذا ذكر الحدود والعقوبات التي فرضتها أمم الشمال على الرجال والنساء، الذين يتزوجون بالأرقاء، فإنهم كانوا يقعون في ربقة الرق والاستعباد.
أما شريعة الويزيقوط فكانت من القساوة بحيث لم يسمع لها بمثيل؛ إذ قد نصت «على أن المرأة الحرة التي تتزوج برقيقها أو بمعتوقها تحرق هي وهو وهما على قيد الحياة».
فانظر الآن إلى الإسلام فيما يختص بهذا النوع من الأنكحة؛ قال الله تعالى:
ومن لم يستطع منكم طولا - أي غنى واعتلاء، وأصله الفضل والزيادة -
أن ينكح المحصنات المؤمنات - أي يعتلي نكاح المحصنات أو من لم يستطع غنى يبلغ به نكاح المحصنات الحرائر لقوله -
فمن ما ملكت أيمانكم ...
من فتياتكم المؤمنات (سورة النساء 4 - آية 25).
33
ثم قال عز من قائل في هذه الآية أيضا:
فانكحوهن بإذن أهلهن - يريد أربابهن -
وآتوهن أجورهن - أي: أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن -
بالمعروف - بغير مطل وإضرار ونقصان -
محصنات - عفائف -
غير مسافحات - غير مجاهرات بالسفاح -
ولا متخذات أخدان - أخلاء في السر.
وقد قال تعالى في سورة النور 24 - آية 32 (وفي الأصل 29):
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم - أي عبيدكم -
وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله
34
ولم يهمل النبي عليه الصلاة والسلام الحث على مثل هذه الأنكحة والحض عليها، واستوصى بها كما سبق لنا بيانه.
وانظر إلى ما جاء في التاريخ، فإن المأمون بن هارون الرشيد مع كونه ابن مملوكة قد نهض به إلى مركز الخلافة ما اتصف به من العقل والعرفان، فكان في ذلك مرجح له على أخيه الأمين.
وقد جعلت الشريعة الغراء للسيد تمام الحرية في تزويج مماليكه إلى من يشاء من الأرقاء والأحرار، ولم تجعل له حقا في التفريق بين الأرقاء بعد تزويجهم، ولكنه لا يجوز له أن يصرح لعبده وأمته أن يعيشا معا بغير زواج، ويجوز له أن يفترش إماءه ما عدا الأختين والأم وبنتها، والخالة وبنتها، والعمة وبنتها، وغيرهن من ذوي الرحم المحرم.
والأولاد الذين يولدون من هذا الوطء يكونون أحرارا وشرعيين، ويرثون في أبيهم مثل ما ترث أولاد المرأة المعقود عليها، وهذه مزية ما وجدت قط في أية شريعة أخرى.
وللسيد أن يتزوج بأمته بعد أن يعتقها، ويعطيها مهرا، وفي هذه الحالة ترثه هي وأولادها، فإذا أبت المعتوقة نكاحه فليس له أن يعيدها تحت سلطته، أو أن يلزمها بنكاحه.
الفرع الرابع: في العتق
إن الديانة الإسلامية تساعد كل المساعدة على العتق، فإنها تدعو إليه، وتحث عليه، لأنها تعتبره عملا مبرورا مقرونا بجزيل الأجر والثواب، وإليك الدليل: قال تعالى:
والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم
الآية.
وقد أوضح الله عز وجل أثناء كلامه على العقبة التي بين الجنة والنار طريقة اجتيازها فقال:
فك رقبة (سورة البلد 90 - آية 13).
ثم أوصى المسلمين أيضا بهذا العمل الإنساني لتكفير ذنوبهم وسيئاتهم فقال تعالى:
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله
الآية (سورة النساء 4 - آية 92).
وقال تعالى في سورة المائدة 4 - آية 89 (وفي الأصل 91):
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته ...
تحرير رقبة .
وإذا كان رمضان وأفطر أحد المسلمين، فعليه أن يكفر عن ذلك بإطعام مسكين، ولكن إذا أفطر بالجماع كانت كفارته فك الرقبة.
35
ولننظر الآن إلى ما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة: روى أبو هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار.» قال الفقهاء: ويستحب أن يكون العبد سليما من العيوب.
وعن البراء بن عازب
36
قال: «جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة، ويبعدني من النار، فقال: أعتق النسمة وفك الرقبة. قال: يا رسول الله، أوليسا واحدا؟ قال: «لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها.»
وعن أبي ذر
37
قال: قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله. قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها.
38
قال الفقهاء: محله فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلا فأراد أن يشتري بها رقبة يعتقها، فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضولتين، فالثنتان أفضل.
ولم تقتصر الشريعة الإسلامية على ذكر العموميات فقط، بل قد نصت أيضا على الأحوال الآتية:
إذا كان العبد مملوكا لجملة شركاء فيجوز لأحدهم أن يعتقه عن حصته، فإذا كان المعتق غنيا وجب عليه أن يقوم العبد قيمة عدل، ويدفع إلى كل شريك حصته حتى ينال العبد حريته بتمامها، ولكن إذا لم يكن عنده من المال ما يكفي لتحريره بأكمله عتق العبد بقدر حصته، ثم عليه أن يسعى ويعمل للحصول على بقية حريته، فقد جاء في الحديث الشريف عن ابن عمر، أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق.» وعن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «من أعتق شقيصا (نصيبا) في مملوك (مشترى بينه وبين غيره) فخلاصه (كله من الرق) عليه في ماله (بأن يؤدي قيمة باقيه من ماله) إن كان له مال، وإلا قوم عليه فاستسعي (بضم التاء أي ألزم العبد) به (أي باكتساب ما قوم من قيمة نصيب الشريك ليفك بقية رقبته من الرق، أو يخدم سيده الذي لم يعتقه بقدر ما له فيه من الرق، والتفسير الأول هو الأصح عند القائل بالاستسعاء) غير مشقوق عليه (في الاكتساب إذا عجز، وقيل: لا يستغلى عليه في الثمن).» ولننبه في هذا المقام إلى أنه لا ينبغي الالتفات إلى ديانة الشركاء أو الرقيق، ولا إرادتهم، لأن الشرع صريح ومساعد على العتق، فلذلك يجب عليهم قبول العتق، لأن ظاهر الحديث أنه لا فرق بين أن يكون المعتق والشريك والعبد مسلمين أو كفارا، أو بعضهم مسلمين وبعضهم كفارا.
وعلى كل حال فإنه يجوز للعبد أن يفتدي نفسه بالمكاتبة، فقد سأل ابن جريج الفقيه عطاء
39
فقال: «أواجب علي (إذا طلب مني مملوكي الكتابة) إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟» قال: «ما أراه إلا واجبا.»
وعن أبي سعيد المقبري قال: «اشترتني امرأة من بني ليث بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم، ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم، فأذهبت إليها عامة المال، ثم حملت ما بقي من المال إليها، فقلت: هذا مالك فاقتضيه. فقالت: لا والله حتى آخذه منك شهرا بشهر، وسنة بسنة. فخرجت به إلى عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له، فقال عمر: ادفعه إلى بيت المال، ثم بعث إليها: هذا مالك في بيت المال، وقد عتق أبو سعيد، فإن شئت فخذي شهرا بشهر وسنة بسنة. قال: فأرسلت فأخذته.»
ومن الجائز أيضا أن يعين الإنسان على فك الرقبة؛ فعن عائشة رضي الله عنها «أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك، ويكون ولاؤك لي فعلت. فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون لنا ولاؤك. فذكرت (عائشة) ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال لها
صلى الله عليه وسلم : ابتاعي فأعتقي، فإن الولاء لمن أعتق، ثم قام فقال: «ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرطه مائة مرة، شرط الله أحق وأوثق»».
وقد عاون النبي نفسه عليه الصلاة والسلام سلمان الفارسي
40
على مكاتبته، فغرس له بيده المباركة ثلاثمائة نخلة، وقال: أعينوا أخاكم. فأعانوه على دفع المال، وقدره أربعون أوقية من الذهب، لأن المكاتبة كانت على غرس ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من الذهب، وبذلك تم له نيل حريته.
وعتق أم الولد يتم بمجرد افتراش السيد لها متى أقر بأولادها وألحق نسبهم به، وفي حياة المولى تكون حالة هذه الأمة شبيهة بحالة الموصى بعتقها، فلا يجوز بيعها ولا هبتها، ومتى توفي نالت فوق ذلك حريتها بلا مقابل، ولو ترك المتوفى ديونا عظيمة.
وإليك شاهد على تطبيق هذه القاعدة والعمل بها، قالت سلامة بنت معقل: كنت للحباب بن عمرو، ولي منه غلام، فلما توفي قالت لي امرأته: الآن تباعين في دينه. فأتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له، فقال: من صاحب تركة الحباب بن عمرو؟ قالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو. فدعاه فقال: لا تبيعوها وأعتقوها.
وهذه الأحكام المساعدة على العتق هي محترمة مقدسة، حتى إنه عليه الصلاة والسلام أثبتها وقررها بمناسبة فراشه مع أمته مريم والدة سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وكذلك حكم العتق في الأمة غير المسلمة، فإنها تنال حريتها بمجرد افتراشها لمولاها.
وقد جاء في نصوص الشرع الشريف أحكام أخرى تنيل العبد حريته، ومثال ذلك إذا صار الرجل عبدا لآخر تجمعه وإياه روابط القرابة والنسب، سواء كان من الأصول أو الفروع لأية درجة كانت، فإنه يعتق عليه حتما، وإذا هرب العبد الأجنبي من بلاده، وجاء إلى دار الإسلام وأسلم، نال حريته. ولا يخفى على من له إلمام بالتواريخ والسير أن كثيرا من العبيد قد التجئوا في واقعتي الطائف والحديبية إلى معسكر النبي عليه الصلاة والسلام، فصرح
صلى الله عليه وسلم
في الحال بأنهم عتقى أحرار، ولم يلتفت قط إلى مطالبة أسيادهم بهم.
قال الله تعالى في كتابه المجيد:
يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار (سورة الممتحنة60 - آية10).
ومن نظر إلى صيغ العتق ورسومه في الدين الإسلامي رآها أكثر بساطة وأشد سهولة منها في الشرائع الأخرى، فيكفي في العتق أن يقول الرجل لعبده: «أنت حر لوجه الله تعالى»، فيكتسب حريته، بل إذا مزح السيد بعتق العبد عتق عليه، ولو لم يقبل العبد نوال حريته، فإنه يصير حرا رغما عن رفضه الحرية.
41
الفرع الخامس: خلاصة ما تقدم
من الآيات القرآنية الشريفة والأحاديث النبوية الكريمة وأقوال الأئمة وشواهد التاريخ التي سردناها في المطالب السابقة، يتضح أن الديانة الإسلامية قد حصرت من غير شك ولا مراء حدود الاسترقاق، وعملت على إنضاب منبعه؛ إذ حتمت شروطا وفرضت قيودا لا بد منها لوقوع الاسترقاق، وبينت الطرق، وأوضحت الوسائل التي يكون بها الخلاص من ربقته، فإذا اتفق لشخص مع كل هذه الوسائط، ووقع القضاء المحتوم عليه، فأوقعه في الاسترقاق، فقد رأينا أن الشريعة الإسلامية لا تتخلى عنه ولا تتركه وشأنه، بل تبسط عليه جناح حمايتها، ولواء رعايتها، فتعتبره جديرا بالشفقة خليقا بالمرحمة؛ لما تراه فيه من الضعف والمسكنة، ولذلك وردت فيها الوصايا التي تفرض على الموالي أن يعاملوا أرقاءهم كما يعاملون أنفسهم، وأن يسعوا في إسعادهم ونعومة بالهم وتأديبهم وتهذيبهم وتعليمهم، وأن لا يزدروا بهم ولا يضعوا من قدرهم، وأن يزوجوهم أو يتزوجوهن تعجيلا لتخليصهم من ربقة الرق، وإيرادهم موارد الحرية.
هذا، وإن العتق الذي جئت فقط على ذكر قواعده العمومية وأصوله المهمة على وجه الإجمال لهو - والحق يقال - من أفخر ما يفتخر به الإسلام، فإن شريعتنا المحمدية قد سعت في تقويض دعائم الاسترقاق وتدمير معالمه، ولكن كيف العمل؟ هل كان من الموافق المبادرة بتحريم أمر امتزجت به عوائد العالم كله منذ ما وجد الاجتماع الإنساني، وتوالت عليه الأيام والأعوام والشهور والدهور؟ ألا إن ذلك كان يجر وراءه بلا شك انقلابا عظيما في نظام الاجتماع، وفتنة كبيرة في نفوس الأمم والأقوام، فلهذا جاءت شريعة الإسلام بهذه الغاية من طريق آخر تزول أمامه الصعوبات وتتذلل العقبات، بدلا من تهييج العقول، وإثارة الخواطر والأفكار بإلغاء الاسترقاق مرة واحدة، فخوطب المسلمون بأن يتقربوا إلى الله بعتق العبيد المساكين في ظروف كثيرة وأحوال متنوعة.
وحث النبي
صلى الله عليه وسلم
كثيرا على السعي في نوال هذه الغاية الجليلة، ولذلك جاءت قواعد العتق في غاية السعة ونهاية اليسر، بحيث يتسنى دائما للرقيق أن يجد فيها طريقا يساعده على الخلاص من الاستعباد إذا طلب ذلك، بل ولو لم يطلبه.
42
الفرع السادس: في التطبيق والخاتمة
قد أتينا فيما سبق على ذكر القواعد النظرية التي عليها الاسترقاق، ولنبحث الآن بحثا مدققا عن الوجه الشرعي الذي يعامل به الزنوج الذين كانوا يردون علينا ويجلبون إلينا من أواسط أفريقيا قبل عقد المعاهدة بين الإنكليز ومصر في 4 أغسطس سنة 1877.
هل هؤلاء المساكين أرقاء حقا؟ هذا موضع تجوز الريبة فيه وتدخل الشكوك عليه، لأننا إذا طبقنا نصوص الشريعة تطبيقا مدققا وبالحرف الواحد كنا على اتفاق تام مع قواعدنا الدينية الحاثة على التقدم، الساعية في الارتقاء، وقلنا إنه يلزم لاسترقاقهم شرطان:
الأول:
أن لا يكونوا يدينون بدين الإسلام في وقت أسرهم.
الثاني:
أن يكون أخذهم بطريق الحرب.
وقد كان يتفق وجود مسلمين بين هؤلاء الزنوج، وكان لا بد من اعتبارهم أحرارا، حيث تقرر أنه «لا يجوز استرقاق المسلم المولود من أبوين حرين»، وأما الآخرون الذين لا يدينون بالإسلام فيشترط في استرقاقهم الأسر في حرب شرعية بعد الإنذار والإشهار، ويشترط أن تكون الحرب في صالح الإسلام، وبما أن أمثال هؤلاء الزنوج كانوا يؤخذون سبيا واختطافا، أو بطرق أخرى غير شرعية يقصد منها المنفعة الشخصية الخصوصية، فلذلك لا يصح القول بأنهم حقيقة أرقاء.
وفي هذا المقام قد يرد علينا اعتراض مهم، وهو: (بما أن هؤلاء الزنوج لم يكونوا حقيقة أرقاء، فلماذا كنتم تفترشون الإماء وتجعلون منهن أمهات الولد؟) والسبب في ذلك سهل بسيط، وهو أن السواد الأعظم منا كان يفعل ذلك عن جهل ليس إلا، من غير زيادة ولا نقص، على أن البعض كفريق من العلماء كانوا يحتاطون قبل افتراش الإماء، فيستعلمون أولا عما إذا كانت الشرائط المطلوبة قد استوفيت كلها، وإلا لم يفترشوهن.
فهل بقيت بعد ذلك حاجة تضطرني إلى اختتام القول بأن الاسترقاق بالوجه الشرعي لا يمكن تحققه، ولا يتأتى حصوله في هذه الأيام، وأنه على ذلك يتسنى للحكومة المصرية بلا منازعة أن تنادي بحرية جميع الموالي الذين بوادي النيل، حتى تكون قد أيدت وأوثقت عهد إلغاء الاسترقاق، وإنه ليحق لي بعد هذا - بل يجب علي - أن أجاهر على رءوس الأشهاد بأن حضرة الكردينال لافيجري، هو وكل من يرى رأيه ويذهب مذهبه، واقعون بلا مشاحة في أشد الخطأ، بعيدون عن الصواب بزعمهم أن ديننا القويم يساعد على اصطياد الرقيق، وأن الإسلاميين يعتقدون ويقولون بأن الزنوج ليسوا من الإنسان، بل إن مقامهم أدنى من مقام الحيوان.
هوامش
الفصل السادس
الكلام على الرق في مصر من حيث العرف والأخلاق
ولنأت الآن بكلام وجيز على الكيفية التي عومل بها الرقيق من حيث العرف والأخلاق والعادات في مصر.
إذا صرفنا النظر عن الأحوال الاستثنائية القليلة التي كان بعض الأسياد فيها يهينون عبيدهم، ويسيئون معاملتهم، بل ويعدمونهم حياتهم، يجمل بنا أن نقول بأن هذه الأعمال لا يتأتى الآن تكررها، ولا يمكن لأحد الإقدام عليها، والفضل في ذلك راجع لحكومتنا الحالية النظامية الدستورية، ولعناية ولي نعمتنا الذي بسط جناح رعايته على جميع أفراد رعيته.
على أننا نقول: أي بلد يخلو من خبثاء شريرين لا يرعون عهدا ولا زمة ؟ فهل يصح للإنسان أن يحمل آثام هؤلاء النفر القليل على عاتق أمة بأكملها؟
وإذا صرفنا النظر عن هذه المغايرات النادرة، واعتبرنا حالة الرقيق العامة، رأيناها أفضل من حالة الخدم الآخرين، فإن سيد الرقيق كان يرعاه ويشفق عليه أكثر من غيره، لكونه منقطعا لا عائلة له، وكان يأمره بما لا يشعر بالشدة والعنت والعنفوان، وما كان يسعى في تحقيره وإذلاله، وكان كثيرا ما يعتق العبد ليزوجه، أو الأمة ليتزوجها.
وكثير من المسلمين يعتقون أرقاءهم بعد أن يخدموهم عددا معينا من السنين، إطاعة لما أمرتهم به شريعتهم الإلهية، فإنها أكثرت من وصايتهم بهذا العمل الخيري الإنساني، بل إنهم يزوجون الإماء بأبنائهم ويمهرونهن بحسب ثروتهم، ويربون أولاد أرقائهم ويعتقونهم ويسعون لهم في وظائف ينالون منها الرزق، وقد خرج من هذه الطائفة ملوك وسلاطين مثل كافور الإخشيدي الذي تولى على بلاد مصر من سنة 966 إلى سنة 968 ميلادية، وكثيرين غيره من الموظفين ذوي المناصب السامية والمقامات العالية ممن خدموا بلادهم بالصدق والأمانة، مثل آدم باشا الذي كان قائد الجيش المصري، ومثل ألماس بك الذي كان ميرالايا في الجيش المصري المبعوث إلى المكسيك في أمريكا، على عهد المغفور له سعيد باشا، وغيرهما من العدد العديد.
ولا يجهل أحد ما كان للطواشية (الخصيان) من الشأن الأكبر والنفوذ المهم في القسطنطينية وفي مصر القاهرة، ففي بلادنا كان أعاظم القوم وسراتهم يتملقون ويتزلفون إلى ألماس أغا طواشي والدة عباس باشا، وخليل أغا طواشي سعيد باشا، ثم خليل أغا المشهور طواشي والدة الخديوي السابق، وكلهم قد جاءوا من بلادهم في أحقر الحالات وأنكدها، فساق الله لهم السعادة، ورزقهم الغنى الوافر والثروة الطائلة.
1
ومتى طعن العبد في السن أو أصابته عاهة من العاهات أعفي من كل الأعمال إذا كان قد رفض الحرية بعد أن عرضت عليه، ولم يكن يشتغل إلا بالعناية بأولاد سيده، فإذا لم يتيسر له بعد العتق كسب القوت لسبب من الأسباب، كان سيده يقوم بنفقته.
وكان الرقيق على الدوام ينال مكافأة من الدراهم يعينها له سيده بحسب مقدرته ، وكثيرا ما ينذر الإنسان فك الرقبة إذا أناله الله حاجة يسعى في طلبها.
وأما العبيد البيض (وهم المماليك) فكانت حالتهم أحسن بما لا يقدر؛ إذ كانت المرأة تكاد تكون على الدوام مخصصة لأن تكون زوجة الرجل أو ولده أو حظية أحدهما، وكانت نساء السلاطين وملوك المشرق (إلا فيما ندر) وكبار الموظفين من هذه الطائفة.
وأما الشبان منهم فكانوا يتربون مع أولاد ساداتهم، ويتعلمون ويتأدبون معا على حد سواء، حتى إذا بلغوا سنا معينة أعتقهم مواليهم وزوجوهم بناتهم، وكانوا يصلون إلى تولي المناصب الرفيعة في إدارة الحكومة؛ ففي أيام المماليك كانت رتبة البكوية لا تعطى إلا للعبيد المماليك، مثال ذلك: علي بك وإبراهيم بك ومراد بك (الذين قاتلوا الفرنساوية واستبدوا على مصر وأهلها)، فقد ابتاعتهم ساداتهم من الأسواق، وها نحن نشاهد الآن عتقى محمد علي وإبراهيم باشا، وخصوصا عباس باشا، متقلدين المناصب السامية، وحائزين للرتب الرفيعة، والدرجات العالية، ومتنعمين بالثروة الطائلة.
وقد كان يتفق في بعض الأحيان أن الأسياد والسيدات يتبنون مماليكهم من الذكور والإناث، ولنا على ذلك شواهد كثيرة لا تخفى.
وكثيرا ما كان الموالي يوصون لمماليكهم بجميع أملاكهم وأموالهم، وكان العبيد من السودان يشتركون أيضا في هذه المزية مثل المماليك، ولنذكر لك مثالا واحدا وقع في أيامنا هذه بدلا من الاستشهاد بأمور بعيدة عن ذكرنا: ألم تترك المرحومة قادن أفندي والمغفور لها إينجو خانم أفندي هبات سنية وعطايا واسعة من أرض ودراهم لجميع عتقاهما وخدمهما بلا تمييز في الألوان؟
وما كان للسودانيين مع ما يلاقون من المعاملة بالحسنى أن يعقدوا آمالهم على الظهور وبلوغ الدرجات العالية مثل ما كان ذلك مقدورا للمماليك ذوي اللون الأبيض.
ومن هذا كله يمكننا أن نستنتج أن المماليك البيض لم يكونوا أرقاء إلا بالاسم. •••
لا يجهل أحد من الناس ما بذلته إنجلترة من المساعي في إبطال الاسترقاق، وأنها لأجل نوال هذه الغاية الإنسانية قد عقدت العهود وأبرمت المواثيق مع عدد عظيم من دول أوربا وآسيا وأمريكا وأفريقيا، وبعد أن لاقت في طريقها صعوبات جمة قد فازت بالنجاح ونالت الأرب، وقد اشتركت مصر في ذلك، وأبرمت معاهدة مع إنجلترة في 4 أغسطس سنة 1877 من مقتضاها أن الاسترقاق والنخاسة ملغيان في جميع أنحاء القطر المصري، ومن جملته السودان، وقد عملت حكومتنا على مقتضى أصول الدين وقواعده من حيث الحض على العتق، فلم تكتف بمراعاة نص هذه المعاهدة، بل فعلت ما هو زائد عليها، فوضعت أقلاما عديدة في جميع الأقاليم لعتق من يطلب ذلك منها من الأرقاء، وجميع هذه الأقلام تحت ملاحظة الماهر النشيط الميرالاي شارل شفر بك مدير عموم مصلحة إلغاء الرقيق، والنتائج التي نجمت عن هذا الترتيب ظاهرة لا يصح نكرانها.
ولنتمم الآن هذا البحث الصغير بإسداء الشكر الجزيل لمولانا الموفق وخديوينا الأكرم على ما بذله من العناية العظمى والرعاية الكبرى في إكمال هذا المشروع الخيري؛ ليجعل رعاياه راتعين في بحبوحة النعيم والحرية، أدامه الله مصدرا لإسعاد البلاد ومن فيها من العباد. •••
ولما كانت مسألة الاسترقاق من المسائل التي شغلت بها أوربا في هذه الأيام فقد عقدنا النية على أن نشتغل بها بنوع خاص، ولنا الأمل في وجه الله الكريم أن يتيح لنا في يوم من الأيام إتحاف جمهور القراء ببحث مطول مستوفى على هذه المسألة، ونسلك فيه الطريق الذي انتهجناه في هذه الرسالة، إلا أنا نوفي المقام ونطيل الكلام في جميع الأبواب، وخصوصا في البابين الأخيرين، ثم نضيف إليه ما يأتي:
أولا :
فتاوى القضاة والعلماء في البلدان الإسلامية المختلفة التي تحرم النخاسة تحريما يبنى عليه تحريم ما هو واقع من الفظائع في أفريقيا الوسطى، فيعرف بذلك حضرة الكردينال لافيجري أن علماء الدين عندنا لا يتقاعسون أبدا عن إبداء الحق، ولا يخشون فيه لومة لائم.
ثانيا :
أفكار كبار المؤلفين الذين كتبوا في الاسترقاق.
ثالثا :
جدولا إحصائيا ببيان العتقى بمصر، والأوقاف التي خصصت لهم بعد موت مواليهم.
رابعا :
كلاما وجيزا على الاسترقاق من حيث فن التدبير والاقتصاد، ومن حيث نتائج إلغائه في بلادنا، والوسائل التي ينبغي اتخاذها للمستقبل.
ونتكلم فيه أيضا على النخاسة من حيث التاريخ والارتباطات الدولية، فنأتي على ذكر كل اتفاق مهم أبرم لهذا الغرض، ونقابل الأهم منها بالأهم، ونخصص بابا لإلغاء النخاسة والاسترقاق في البلاد المختلفة، وللنتائج التي حصلت بعد هذه الاتفاقات، ونختم بحثنا ببيان بعض أوجه الخلاف الظاهري بين نصوص الشريعة الإسلامية وبين شروط المعاهدة التي أبرمتها إنجلترة مع مصر، ونذكر من طرق التوفيق بينهما ما يندفع به الإشكال إن شاء الله.
وهنا ندعو جميع الذين تعنيهم هذه المسألة إلى التفضل علينا بكل ما يلوح لهم من الملحوظات على هذا الكتاب، وما عندهم من الآثار، وإعانتنا بما لديهم من المعلومات والأفكار حتى يتيسر لنا بحوله تعالى إنجاز صنيعنا الكبير الذي عقدنا النية عليه، والله الموفق لعباده، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
2
هوامش
الملحقات
يقول مترجم هذه الرسالة قد اطلعت على جملة فصول بخصوص هذا الكتاب، فرأيت أن أذيل هذه الترجمة بأهمها وأكثرها فائدة؛ إعلاما بمقامه وتنويها بذكره.
الملحق الأول
كان إلقاء هذه الخطبة الفريدة المفيدة على جملة جلسات عقدتها الجمعية الجغرافية الخديوية، أولها في 28 نوفمبر سنة 1890، ولما كانت الجلسة الثانية في 12 ديسمبر سنة 1890، قال الرئيس قبل أن يدعو الخطيب إلى إتمام مقالته، بأنه لم يتيسر له التصريح بالتكلم لمن له ملحوظات على القسم الأول من مبحث الخطيب لكون الوقت كان قد أزف، ولذلك فهو يصرح بالكلام على هذا الموضوع لمن أراده من الحاضرين قبل أن ينتقل الخطيب إلى القسم الثاني من بحثه الجليل، فقام حضرة الكونت زالوسكي أحد أعضاء الجمعية وأحد مديري صندوق الدين العمومي، وطلب أن يتكلم فقال ما تعريبه:
قد قال حضرة أحمد شفيق في القسم الأول من رسالته الذي تلاه علينا إن الديانة النصرانية أشبهت شرائع السلف في الإقرار على مبادئ الاسترقاق وأصوله، بل قد استشهد على قوله بنصوص ونقول أوردها من الكتاب المقدس.
سيداتي وسادتي: حاشا أن يكون قصدي فتح باب الجدال الديني في هذه الجلسة، فإن هذا ليس محله، ولكن بما أن حضرة الخطيب الموقر لم يتردد في الدخول في موضوع من هذا القبيل في معرض بحث لا علاقة له مباشرة بأعمال الجمعية الجغرافية الخديوية، فأرى من مقتضيات الشرف والكرامة دحض قضية تناقض الديانة المسيحية والوصايا الإنجيلية التي قامت عليها الكنيسة في اشتغالها بإصلاح حالة المجتمع الإنساني منذ قرون عديدة.
فقد وقع حضرة أحمد شفيق في خطأ مبين أرى من الواجب علي التنبيه عليه واستلفات الأنظار إليه، وذلك أنه خلط النصرانية - أعني التعاليم المسيحية النصرانية - بالشرائع التي لاقاها في طريقة دين المسيح في أوساط مختلفة وأعصار متوالية.
قال مؤسس هذه الديانة: «أعط لقيصر ما لقيصر، وأعط لله ما لله.» وبناء على ذلك التزمت الكنيسة التي هي أمينة ومفسرة لعقائد الإيمان ووصايا الأدب الآتي عن طريق الوحي، بأن ترتضي بشرائع الهيئة الاجتماعية المنظمة لأحوال الناس، كما أنها ارتضت في كل مكان وزمان بالنظامات الحكومية السياسية المتنوعة من ملوكية وجمهورية، ومن مطلقة ودستورية، وبديهي أن الاعتراف بالشرائع المعمول بها وبالحكومات المنظمة المشكلة، لا يعتبر إقرارا على الأصول والقواعد التي روعيت في سن تلكم الشرائع، وتنظيم هاتيكم الحكومات، وقد صدرت من البابا لاوون الثالث عشر براءة عامة في هذه الأيام الأخيرة تذكر بهذا المعنى، ولم يقصد القديس بولس وغيره من آباء الكنيسة الذين ذكروا لنا بتوصية العبيد بالإذعان والامتثال لحالتهم إلا تخفيف شدائد هذه الحالة عليهم، واتخذ آباء الكنيسة لذلك وسيلة فعالة موافقة للطبيعة وللاعتقاد، وهي أن المساكين الذين صاروا ملكا لمواليهم وشيئا من أشيائهم إذا قبلوا وتحملوا مضض الأيام ومحن الزمان وهم صابرون يصيرون أهلا لسكنى الجنان والتمتع بالنعيم في دار البقاء، فهل يمكن الإنسان أن يعتبر الشفقة التي كان موضوعها العبيد باسم دين مواس كانوا هم في الغالب أول من يقبل عليه ويدين به بمنزلة تثبيت للاسترقاق وتقديس له وإقرار عليه؟ وهل يصح القول بأن الملة التي تقول بأن جميع أفراد الإنسان هم أبناء الخالق، وأنه يجب عليهم أن يعتبروا بعضهم إخوانا لبعض ليست هي الملة المنفردة بمناقضة الاسترقاق؟ ألا إن النصرانية قد رفعت مقام الإنسانية في أقدس أسرارها إلى أسمى الدرجات ولم تقر قط بجواز الاسترقاق ، بل يصح لها أن تطالب بحصة عظيمة من السعي في إلغائه من الوجود، فإنها لم تفتر عن بث محبة الله والقريب (الأخ في الآدمية) في الأفئدة والقلوب، ولا عن التأثير في سريرة الأفراد والأمم، ولا عن المناداة بمبادئ الحرية والإخاء، ولنا في العدد العديد من القوانين الكنائسية والنظامات الصادرة من مقام البابوية دليل صادق وبرهان ناطق بعناية الكنيسة عناية خصوصية بشأن الأرقاء، مثال ذلك من ابتداء سنة 1842، رسائل البابا بيوس الثاني وبولس الثالث وأوربانوس الثامن وبنوا الرابع عشر وغريغوريوس السادس عشر، ولذلك ظهر للكنيسة تأثير قوي في بلاد النصرانية، حتى إن هذه البلاد قد أخذت تدريجا في تخفيف حالة أولئك الأفراد من بني الإنسان المحرومين من حريتهم وشخصيتهم القانونية، حتى آل بها الأمر إلى إعادة حقوقهم الطبيعية الأساسية الأولية إليهم.
وقد رأينا من الذين لم ينكروا العمل الإحساني الذي قامت به الكنيسة فريقا يلومها على شدة بطئها في إنجازه وكثرة توانيها في إنفاذه، ولكن ألم تكن الكنيسة نفسها منفية مهددة مضطهدة مدة أجيال طوال؟ وهل كان في وسعها أمام العدد العديد من العبيد في الدولة الرومانية وفي ممالك القرون الوسطى وفي المستعمرات لهذا العهد أن تحث على عتقهم وتدعو إلى تحريرهم من غير أن يترتب على صنيعها هذا ارتجاج عام في نظام المجتمع الإنساني؟
ولنذكر أن سبارتاكوس على رأس جيش من الأرقاء قد أزعج رومة وخرب إيطاليا، وأن العنف الذي حصل في أيامنا هذه في تحرير الأرقاء بأمريكا قد أجج نيران حرب الانشقاق، ألا إن الكنيسة لو تطرفت في عملها لجعلت الهيئة الاجتماعية تحتفظ منها، ولذلك انتظرت بحزم وحكمة حلول الأجل المحتوم، فوصلت إلى غايتها وهي محافظة على شأنها واختصاصها.
ورب معترض يقول: إن تقدم المدنية وارتقاء الحضارة هو الذي أوجب بالضرورة إلغاء الاسترقاق، ولم يكن للدين في ذلك دخل. فأقول: إني أحترم أفكار غيري احتراما شديدا يوجب علي عدم الإفاضة في تصويب فكري، الذي هو فكر المذهب المعبر عنه في ألمانيا بالتاريخي، ومن مقتضى هذا المذهب أن الديانة النصرانية هي الدعامة الأولى للتمدن العصري، ولكن لي الأمل في أني لا أرى أحدا يناقضني إذا قلت إن نفس سلوك رئيس الأساقفة بالجزائر (يعني الكردينال لافيجري) الذي يجهد نفسه جهدا كريما في الأخذ بناصر أرقاء أفريقيا هو أوفى دليل على ما اتصفت به الديانة النصرانية في هذا الموضوع.
فأجاب حضرة أحمد شفيق على ملاحظة حضرة الكونت زالوسكي بأنه مستعد لبيان الأصول التي نقل منها ما ألقاه على الجمعية، ثم أراد أن يسترسل في الرد عليه، فرأى الرئيس أن التوسع في الجدال ربما يخرج عن موضوع الخطبة، ودعا حضرة شفيق بك لإتمام تلاوة مبحثه، فأطال حضرته، حتى إذا لم يعد الوقت كافيا تأجلت تلاوة القسم الأخير إلى جلسة أخرى، ولما حضر فيها حضرة المؤلف أحضر معه نسخا مطبوعة فيها أسماء الكتب المسيحية التي نقل عنها ما نقل مع بيان أسماء مؤلفيها وتواريخ طبعها والمدائن التي طبعت فيها، وخلاصة ما جاء فيها مما له ارتباط بهذا الموضوع.
1
الملحق الثاني
نشرت جريدة الأجبسيان غازت جملة بمناسبة هذه الخطبة جاء فيها:
إن المحاضرة التي ألقاها شفيق كانت كثيرة الفائدة، إلا أنها كانت عدوانية، فالاختلافات والمقارنات اللاهوتية، يلزم اجتنابها في المحاضرات العامة، وبالأخص في البلاد التي يوجد بين سكانها عدد كبير من أديان مختلفة، وفي الحق إن نظرية شفيق كانت في موضعها، ولكنها من الوجهة العملية تختلف كثيرا عن أحكام القرآن.
ونسي المحاضر أن كل الديانات تبدي كراهتها للاسترقاق، وفي الوقت نفسه لم يفكر في أن الإنسان لا يعمل إلا نادرا بأحكام الديانة، كما أن المسلمين غير مسئولين عن الفظائع التي يرتكبها النخاسون وملاك الرقيق، وإذا كان الإنجيل لا يحتوي على أحكام خاصة بالاسترقاق، فإن مرجع ذلك عدم اعترافه بالرق الذي لم يكن له نظام عرفي، ولا باستخدامه في المعيشة الداخلية، وأن الديانة المسيحية كانت تعتبر وجود الرق حالة شاذة من بقايا عادة وثنية تخالف حكمة القانون، فالحواريون ما كانوا يفكرون أن كشف أمريكا يؤدي إلى تجديد هذه العادات العتيقة.
فأجاب عليها المؤلف بفصل بعث به إلى الجريدة المذكورة فنشرته في العدد 2805 الصادر في 22 ديسمبر، وهذا تعريبه:
حضرة مدير جريدة الأجبسيان غازت
تلوت في العدد الصادر في 15 ديسمبر جملة تختص بالجلسة الأخيرة التي عقدتها الجمعية الجغرافية الخديوية، لم يتفطن صاحبها أثناء كلامه على خطبتي في الاسترقاق إلى المعنى الحقيقي الذي يستفاد من أقوالي، ولذلك جئت أرجوكم أن تتكرموا بنشر إجابتي هذه في جريدتكم الغراء.
إن الذي حملني على الشروع في هذا البحث على الاسترقاق إنما هو الخطأ الشائع في أوربا بخصوص الديانة الإسلامية؛ إذ يزعم القوم أن نصوصها تساعد على ارتكاب الفظائع الحاصلة في أفريقيا الوسطى، فلما أقدمت على هذا العمل رأيت من الواجب علي أن أحيط علم الجمهور بخلاصة تاريخية على الاسترقاق منذ الأعصار الخوالي والقرون السوالف، وجرني ذلك أيضا إلى الكلام عليه في الديانة النصرانية، وحينئذ لم يكن قصدي أن أتهم هذه الملة، وإنما ذكرت بعض أقوال آباء وعلماء الكنيسة للإعلام بحوادث وقعت وأمور تمت ليس إلا، فلذلك ليس في هذا المبحث شيء من العدوان، لأن غرضي الوحيد إنما هو - كما لا يخفي - أن أبرهن على أن الديانة الإسلامية لم تعتبر قط بني الزنج بمثابة الحيوان، بل إنها تكثر من وصاية المؤمنين بمعاملتهم بالتي هي أحسن، وإنها تسعى في إلغاء الاسترقاق وتجنح إلى إبطاله.
وتقبل يا حضرة المدير مزيد شكراني ووافر احترامي.
الملحق الثالث
رأيت في عدد 514 من جريدة المؤيد الأغر الصادرة في 28 محرم سنة 1309 (2 سبتمبر سنة 1891) الجملة الآتية وهي بنصها:
كتاب الرق في الإسلام
هذا الكتاب الجليل النفيس هو أحسن وأفضل ما صنف في الدفاع عن الديانة الإسلامية، التي قام الكردينال لافيجري وأشياعه باتهامها بأنها هي التي تدعو إلى النخاسة، وتوصي أهلها بارتكاب الفظائع والقبائح التي يرويها عن أواسط أفريقيا، ألفه بالفرنساوية حضرة الفاضل البارع أحمد بك شفيق السكرتير الخصوصي لسعادة ناظر الخارجية، وألقاه في جلسات متوالية على الجمعية الجغرافية الخديوية، فكان له أحسن وقع وأعظم تأثير، وقد أتينا على ما صادفه من النجاح والقبول في أعدادنا الماضية، وشرحنا أهم أقواله وملاحظاته، وقد ألح كثير من الكبراء والفضلاء الذين يهمهم إحقاق الحق وتبيان الواقع على حضرة الفاضل الألمعي الأريب أحمد أفندي زكي مترجم أول مجلس النظار، ومترجم شرف في الجمعية الجغرافية الخديوية بنقل هذا السفر العديم النظير إلى اللغة العربية، فلبى الطلب وقام بهذا الواجب خدمة للدين والحق، وعما قريب يتجلى للقراء من أبناء العرب، فيرون ما فيه من شوارد الفوائد، وأوابد الفرائد، ويشكرون هذين الفاضلين النجيبين على هذه الخدمة الجليلة.
وإننا نحيط علم حضرات القراء بقليل من كثير من النجاح الفائق الذي صادفته هذه الرسالة الفريدة في بابها عند كبراء الإفرنج الذين يقدرون الأشياء حق قدرها؛ فقد بعث الموسيو ميسمر رئيس الإرسالية الفرنساوية سابقا المشهود له بكثرة المعارف واتساع الاطلاع يهنئ المؤلف ويقول له: «لقد أفحمت خصمك، وإن الحق لفي جانبك، ولو أنك وضعت على كتابك الذي طبع على حدة هذا العنوان (رد مسلم على الكردينال لافيجري)
2
لكان نال اشتهارا فائقا وسارت بذكره الركبان.» وكذلك الموسيو ريبو أحد نواب فرنسا وناظر خارجيتها، أرسل إليه يشكره شكرا جزيلا، ومثله المسيو أندري لوبون (شقيق العلامة الفيلسوف جوستاف لوبون صاحب كتاب تمدن العرب) الموظف في وظيفة ناظر القلم الخاص برئيس مجلس السناتو في فرنسا، فإنه بعث إليه بعبارات الشكر الرائقة، وقد كتب إليه حضرة الموسيو ماسيجلى أحد كبار مدرسي القوانين بمدرسة الحقوق بباريس يقول فيه: «إني أشكرك على لطفك الكثير وكرمك الجزيل في إتحافي بنسخة من كتابك على الاسترقاق، وقد تلوته باهتمام زائد والتفات وافر، وإني أهنئك على إتمام هذا الصنع الباهر ... إلخ.» وكتب إليه الموسيو موجل ناظر الإرسالية المصرية بفرنسا حالا يقول: «إني لأشكرك من صميم الفؤاد على إتحافي بنسخة من بحثك المفيد الجليل الذي تحريت فيه الكلام على الاسترقاق، ولم يكن لي علم به إلا من بضعة سطور رأيتها في بعض الجرائد، أما الآن وقد تلوته من أوله إلى آخره فقد وقفت على مكانته من الأهمية والخطارة، وعلمت مقدار ما استوجبه من البحث والتنقير، ولعمري إن ذلك شيء عظيم وأمر خطير ... إلخ.» وكتب إليه الموسيو داجين السكرتير العام لجمعية مقارنة الشرائع ومطابقة القوانين يقول: «قد وصل لنا كتابك على الرق في الإسلام، وإني أهديك الشكر الجزيل على لطفك في إتحافنا بهذا العمل المفيد، وسأحيط به علم أعضاء القسم الفرنساوي من جمعيتنا حتى يعينوا واحدا منهم ليقدم عنه خلاصة ننشرها في كراسة جمعيتنا ... إلخ.» وأرسل له أيضا العالم الموسيو دوليل ناظر الكتبخانة الأهلية بمدينة باريس يشكره على تفضله بإرسال نسخة من كتابه هذا إلى الكتبخانة المذكورة، وأنه وضعه فيها وسجل اسمه في دفاترها، وقد كتب إليه الموسيو بوكارا أحد المفتشين بقومبانية قنال السويس يقول له: «لقد سررت من كتابك سرورا عظيما، فإنه برهن لي على أنك لم تنسني، وقد تلوته بعناية واهتمام، وإنك أصبت في البدء بذكر خلاصة تاريخية وجيزة على الاسترقاق ولكنها جوهرية، وتكلمت عليه عند جميع الأمم في الأزمان القديمة والقرون الوسطى، ثم استنبطت هذه النتيجة التي تدل على أصالة رأيك وإصابة فكرك، وهي أن الاسترقاق عند جميع أمم الشرق كان مقرونا بتلطف وتعطف لا يجد نظيرهما الإنسان في مدينة رومة أو في بلاد اليونان، وقد أوضحت أن الأرقاء كانت معاملتهم بالحسنى في مصر على الدوام، وأكدت عن صدق الإرادة في تحسين حالتهم في هذا الزمان أكثر مما قد كان، ثم احتججت على دعاوى الكردينال لافيجري الذي يقول: (إن الزنوج عند المسلمين ليسوا من العائلة البشرية.) وإني أجد احتجاجك صحيحا شرعيا، وأستصوب كل الاستصواب ما فعلته في هذا الباب من الدفاع عن دينك وعن مليكك، ويا حبذا لو أن كل فرد من أفراد الفرنساوية يوفق لأن يفعل مثل ذلك بالنسبة لدينه وبلاده!» ثم ختم كتابة بتكرار الشكر وإعادة التهاني على ظهور هذا الكتاب من حيث شكله وموضوعه.
وقد كتب إليه الموسيو بيجوا المستشار الإكرامي في ديوان محاسبة باريس يشكره على إرسال نسخة من كتابه، وأنه تلاه باهتمام كثير، وتحقق بذلك أن دروسه التي تلقاها في فرنسا سيستخدمها في صالح بلاده وفائدة قومه ... إلخ. ثم كتب إليه صاحب الدولة رستم باشا سفير الدولة العلية في لوندرة يقول: «وصلني المكتوب الذي تفضلت بتحريره إلي في 12 الجاري شهر يوليو سنة 91 بقصد إرسال جملة نسخ من كتابك (الرق في الإسلام)، ولعمري إنه لا بد أن يأتي خير جسيم ونفع عميم من مثل هذا العمل الذي موضوعه الإثبات على أن الشريعة الإسلامية لا تقر على اصطياد الزنوج الحاصل في بعض أقطار أفريقيا، وإني أشكرك على النسخة التي تفضلت بإهدائها إلي، وسيحصل لي مزيد السرور من توزيع النسخ الباقية على الأشخاص وأرباب الجرائد الذين أرى فيهم الاقتدار على بث ما تضمنته بين جمهور الإنكليز، وتقبل يا حضرة البك أكيد احترامي وغاية إجلالي.
هذا، وما لبثت هذه الرسالة أن ظهرت في أوربا حتى أقبلت الجرائد الإفرنجية المهمة على تقريظها بما هي أهله، بل إن بعضها، مثل جريدة لاتوركي وغيرها، قد نشرتها برمتها في أعداد متوالية، لأنها لم تر وسيلة أفضل من ذلك لإحاطة علم قرائها بما حوته من المواضيع الشائقة والأقوال الصادقة.
الملحق الرابع
وبعد أن ظهر هذا الفصل في جريدة المؤيد جاء إلى المؤلف مكتوب في 30 أغسطس سنة 91 من المسيو أرتو روني، وهو من كبار العلماء في فرنسا، وله تآليف مهمة على مصر، وإليك تعريب هذا الكتاب:
سيدي:
لا يسعني إلا أن أقدم لك الشكر والثناء على كتابك (الرق في الإسلام) الذي تفضلت بإتحافي بنسخة منه، هذا وإذا كانت إقامتي في مصر غير طويلة المدى وجب علي أن أتطلع إلى معرفة كل ما يتعلق بهذه البلاد التي لها في فؤادي منزلة سامية قبل أن أبدي أفكاري الخصوصية على ما يجري فيها من الأمور، وعلى ذلك فإني أشهد بأن عملك الذي راعيت في تصنيفه جانب الصدق والأمانة قد جاء موافقا لكل ما اتصل بي عن هاتيك الديار، وكل ما سمحت لي الظروف بمشاهدته بنفسي، وقد روى لي بعض الذين نزلوا بمصر قبل أربعين سنة مضت أن استرقاق الزنوج ليس إلا ضربا من الاستخدام، أو شرطا للعمل يسري على العامل طول حياته، ويجوز فسخ هذا الشرط بالسهولة التامة، ولا يتخلل هذا الاسترقاق شيء ينافي مبادئ الإنسانية، وأن استرقاق المماليك ليس إلا نوعا من التبني، وكثيرا ما وصل بالأرقاء إلى مراقي الشرف والسعادة، ولقد بلغني نبأ زنوج يقومون بإطعام مواليهم حينما طعنوا في السن وصاروا من المغضوب عليهم، أو عبثت بهم أيدي الفقر والاحتياج، وما قولك في ذلك النادي الذي دخل فيه أحد أصدقائي وقيل له بخشوع وتبجيل أن انظر إلى هؤلاء الذوات فكلهم من معتوقي الباشا فلان، ويا حبذا لو وضع كتاب شاف مفصل في تاريخ الخمسمائة سنة التي حكمت فيها المماليك على مصر، فإنهم كلهم من الأرقاء قد اختارهم مواليهم من أجمل وأذكى الأطفال الذين جيء بهم من بلاد الشركس أو غيرها.
وقد شرح العلامة المقريزي كيفية تربية المماليك بقلعة الجبل بما يشعر بمقدار العناية الفائقة بهم، ومزيد الالتفات إلى شأنهم، فإنهم كانوا يرشحون على حسب قواهم العقلية للقتال أو السياسة أو الفنون والملاهي أو العلم والمعارف، ولذلك بلغ عصر المماليك مبلغا عظيما من الحضارة والفخامة، مع ما كان فيه من انتشار الفوضى والاضطراب، فهم الذين ملئوا القاهرة بهاتيك الآثار الباهرة والقصور الفاخرة التي يؤمها الزوار من سائر الأقطار.
وقد أتيح لي أن أتمتع برؤية هذه المناظر الرائقة منذ 26 سنة؛ أي قبل أن تشوبها شائبة أو يمسها سوء ...
وقد استغرب بعضهم أن السلطان قلاوون لم يكثر من تشييد العمائر فقال لهم: «نعم، ولكني أنشأت حولي قلعة من الأحياء، وستكفيني أنا ومن يخلفني غائلة الأعادي.» يشير بالقلعة إلى حلقته وحرسه. وبعبارة أخرى: دائرة المماليك التي حوله.
كل هذه أمور يجمل ذكرها ويحسن إيرادها ...
ثم لو أمعنا النظر في حالة زنجي قد حصل في القاهرة على عيشة راضية لحق علينا أن نتساءل كم من زنوج غيره قاسوا الأهوال وتجرعوا كأس الحمام أثناء سيرهم في هذه الطريق التي توصلهم إلى مصر.
وقد وجد من الخصيان من سعد حظهم وتوفرت لهم أسباب الثروة والهناء؛ مثل خليل أغا الذي ذكرته في كتابك، وقد كان قوي السلطان مسموع الكلمة لدى والدة الخديوي السابق، حتى حصل له ما حصل؛ إذ دس له السم في القهوة تخلصا من شره وعتوه، ولكن كم من الفتيان قد هلكوا حتى توصل النخاسون على خصي واحد مثل خليل أغا هذا.
وإنا لنعترف بأنه شتان بين الاسترقاق في الإسلام وبينه في المستعمرات بأمريكا ... إلخ.
الملحق الخامس
وجاء في الجريدة المذكورة بتاريخ 13 ربيع الآخر سنة 1309 (25 نوفمبر سنة 1891) نمرة 55 ما نصه:
الرق في الإسلام
قرأنا في جريدة الريبو بليكان أورليانيز الفرنساوية الصادرة في أول أغسطس سنة 91 مقالة ضافية الذيل خصصها محررها للمدافعة عن الدين الإسلامي، وعن نسبته إلى هضم الحقوق الإنسانية بسبب حكمه على الرقيق، وقد أردنا ترجمتها ليطلع عليها قراء جريدتنا الكرام، قالت: «يحسن بنا أولا أن نسأل قراءنا الكرام أن يسمحوا لنا بأداء واجب الدفاع والذب عن الديانة الإسلامية المحمدية فيما يختص بالرق؛ كبحا لجماح الوساوس والأوهام التي علقت بأفكار أتباع بعض الفرق الدينية النصرانية، فإن مصلحة فرنسا السياسية من حيث هذا الموضوع متوقفة على رفض مزاعم الكردينال لافيجرى التي أخذ يبثها في كل ناحية وصقع، والتحرس من نفثات المرسلين الإنكليزيين.
وليس بخاف على أحد أن إنكلترة لم تسع في إلغاء الرقيق ولم تظهر نفسها في مظهر العدو الألد لهذه العادة الممقوتة إلا بسبب قلة اليد العاملة في مستعمراتها، وأن الكنيسة الكاثوليكية لما تحركت عواطفها الدينية بعامل التشيع والتعصب، جعلت مطمح أنظارها ومرمى نواياها إلغاء الاسترقاق من قارة أفريقيا، وكان لها من دراهم رعاياها التي امتلأت بها خزائنها أعظم نصير شد أزرها على مقاومة شريعة لها في بناء التمدن الحالي اليد البيضاء، وقد رميت زورا وإفكا بما هي براء منه، حتى إن الكردينال لافيجري زعم (أن المسلمين يعتقدون أن الزنجي ليس من العائلة البشرية والهيئة الاجتماعية الإنسانية، بل هو واسطة بين الإنسان والحيوانات العجم، وأنهم يعلمون هذه المعتقدات لأطفالهم ويبثونها في أذهانهم، بل ربما برهنوا لهم على أنه أخس مقاما من تلك الحيوانات).
ولقد تحققنا بالبراهين الدامغة أن الكردينال لافيجري قد استعمل في دعواه هذه طرق الغش والتدليس، ولكي يجتذب تعضيد الفرق الدينية ماديا وأدبيا قد برقش راية دعوته بصبغة الدين، فنهج منهجا مناقضا لطريقة تمثيل الحقائق بالصفة التي حقها أن تكون عليها، وربما عادت هذه الخطة بالعواقب الوخيمة على فرنسا التي يصح أن يطلق عليها أنها دولة إسلامية.
ولو نظرنا الآن إلى نتائج مساعي الكنيسة الكاثوليكية في طريق إبطال الرق لرأيناها على الضد مما كانت تومئ إليه مقدماتها، فإن جذوة الاسترقاق قد التهبت بدلا عن أن تخمد، واتسع نطاق دائرته عن ذي قبل، ولا غرابة في ذلك، لأن هذا المذهب الذي قام بالدعوة إليه نصراء الإنسانية غير مطابق لمقتضيات الطبيعة التي قضت أن يكون في الخليقة سيد حر وعبد رقيق، ولنا في تعاليم القديس توماس الذي اجتهد في نشرها البابا ليون الثالث عشر أعظم برهان على ما نقول، فإنه كان يقول لتلامذته: «إن فطرة الوجود قضت بأن يكون بعض الجنس البشري ملكا للبعض الآخر.» وكان يستند لذلك على النواميس الطبيعية والإلهية التي حتمت أن يكون موجود أقل من موجود ماديا وأدبيا، فيكون ذلك تابعا لهذا.
وهذا المسيو بوافييه أسقف مدينة مان قد استحسن في كتابة المسمى (بالنظامات الإلهية) عادة الاسترقاق، وصرح بأن الرقيق تجارة محللة، ولم يجسر أحد من علماء الدين أن يثير على كلامه غبار الاعتراض، وكذلك لم نجد من دافع عن العبيد أو ذب عن حقوقهم، حينما كان ملوكنا في القرن الثامن عشر يشترعون وجوب حرمان العبيد من التمتع بالمزايا والامتيازات التي يتنعم البيض في بحبوحتها.
وليس - على ما أظن - لكنيستنا دخل في إبطال الرق بأملاكنا الفرنساوية أو بالأملاك الأخرى التابعة للدول المختلفة، بل الفضل كل الفضل للثورة الفرنساوية التي جعلت المساواة من ضمن مبادئها وخصصت لها سطرا في قائمة مشروعها الإنساني.
أما المنهاج الذي اتبعه في شريعته النبي العربي محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم
مما يختص بالرقيق، فكان مناقضا لمشروع الكنيسة على خط مستقيم، وذلك لأنه في العصر الذي بعثه الله فيه برسالته إلى الخلق كان يصعب عليه التعرض لأمر حلا في أذواق الشرقيين عموما ، ومالوا إليه كل الميل، فبقي مستمرا مقبولا، ولكن كم من آية في القرآن الشريف أوصت بحسن معاملة الأرقاء وحضت على عتقهم، وأمرت السادة أن يعلموهم ويرقوا أذهانهم ويدلوهم على ما به سعادتهم في المستقبل، وأن يعتبروهم كأعضاء من عائلاتهم.
ومسألة العتق - كما لا يخفى - مما حتمه الدين الإسلامي على كل من تملك عبدا من العبيد، بحيث إن من يخالف ذلك يكون قد عرض نفسه للعقاب في الدار الآخرة، ولا يحتاج العتق في الشريعة الإسلامية إلى أصول معقدة وعقود مشكلة كما هو الشأن في القانون الروماني، بل يكفي في وقوعه صدور لفظ دال عليه من فم المالك ولو على سبيل المزاح.
ولقد جاءت طريقة إبطال الرق الآن موافقة كل الموافقة للشريعة الإسلامية، ولذلك رضيها وعضدها الملوك والأمراء المسلمون؛ مثل سلطان زنجبار والخليفة الأعظم أمير المؤمنين وغيرهما، لأنها لم تخرج عما أمرت به الديانة الإسلامية، فأي ذي ملكة وعقل يعضد لافيجري في مزاعمه التي قام بنشرها بعد أن علم أن الدين الإسلامي غايته من الرق إنقاذ العبيد من حضيض التوحش إلى ذروة التمدن!
ولهذا نكرر القول بأن المنهج الذي سار عليه في دعوته هذه يجلب الأخطار العظمى على البلاد الفرنساوية، لأننا - كما لا يخفى - شديدو الارتباط مع أربعة ملايين من المسلمين في بلاد الجزائر فقط، فضلا عن البلاد الأخرى، فلو نهضنا الآن لإثارة الدين النصراني على الدين الإسلامي لهيجنا خواطر المسلمين وغرسنا في قلوبهم بذور الحقد والضغينة علينا، وعرضنا أنفسنا للمكائد التي تكبدنا في السابق تأثيراتها السيئة.
يستنتج من جميع ما تقدم أنه لا يجمل بنا أن ندع أرباب الدين وقسس الملة المسيحية يتداخلون في أمور سياسية لا تعنيهم، وليس لها أدنى ارتباط بواجباتهم الدينية التي حقها أن لا تتجاوز جدران الكنيسة وزواياها، ولا أن نتركهم يرتبكون مع أقوام نسعى نحن في تحسين علاقاتنا معهم، وهم يبذلون الجهد في تكدير صفوها متذرعين بالنصرة للدين، وتكدير صفو العلاقات بيننا وبينهم في الحالة الحاضرة مما يعود علينا بالضرر.
هذا، وليتحقق القراء الكرام من أن جميع ما نسب للديانة الإسلامية من التهم والفظائع التي تنفر من سماعها الطباع وتأباها الأفكار السليمة، ليس لها خيال من الصحة أو ظل من الحقيقة، بل كلها أكاذيب وأباطيل يدحضها التاريخ.
ولم يكن الرق بالحالة التي هيجت أهل أوربا وأشعلت جذوة غضبهم وسخطهم إلا في البلاد السودانية التابعة للأمم النصرانية، أما في البلاد المستنيرة بنور القرآن الشريف، فهو أقل شدة وأقرب إلى المبادئ الإنسانية، فإذا أردنا - والحق يقال - أن نسعى في ملاشاته بالكلية، فالاستعانة بالوسائل الدينية لا تجدي نفعا.
ويجب على فرنسا تجاه هذه المسألة أن تختط طريقا غير تلك الطريق العقيمة، ولن تبلغ أمانيها من ذلك إلا بنشر المبادئ المحمدية بين رعاياها المسلمين، وبهذه الواسطة تنبث هذه المبادئ في عقول الوثنيين المجاورين لأملاكها ومستعمراتها، فتهدأ أمواج الاسترقاق وتسكن زوابعه.» ا.ه.
الملحق السادس
رأيت فصلا نشرته جريدة الأوبسرافوتور الفرنساوية تحت عنوان: «الإسلام والاسترقاق في عددها الصادر بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1891، وهذا تعريبه:
إننا لنهتم في فرنسا اهتماما شديدا بإلغاء الاسترقاق من بلاد السودان، وقد عملنا أعمالا كثيرة لقمع هذه العادة البربرية التي ترتبت عليها النخاسة، ولا نزال نأتي بأعمال كثيرة بسبب انتظام إرسالياتنا، وتعضيد جنودنا بأفريقيا لها تعضيدا قويا.
ولكنا لم ننفرد بهذا العمل الإنساني، بل هناك أمم أخرى اقتدت بنا، ونسجت على منوالنا.
ولذلك نرى من المفيد النافع أن نقف على اجتهاد غيرنا في هذا الباب، فأما نحن فقد أسعدنا الحظ فاطلعنا على الخطبة التي ألقاها أحمد شفيق بك السكرتير الخصوصي لسعادة ناظر الخارجية على الجمعية الجغرافية الخديوية، وقد طبعها حضرته في كراسة على حدتها عنوانها «الرق في الإسلام»، وليس حضرته مجهولا عندنا، فقد أرسلته حكومته منذ نعومة أظفاره إلى باريس، فدأب على الاجتهاد حتى تحصل على أجل الأتعاب، وسبر غور المعارف التي يمكن إتحاف وطنه بها، واستفادة أهليه منها، وقد رجع إلى بلاده وهو الآن فيها في وظيفة سامية، وترك بين ظهرانينا حسن الذكرى، وجميل الأحدوثة، ولذلك فهو إنما يزيد في ميلنا لمصر وانجذابنا نحوها، ولو أننا نأسف على رؤيتها غير مستقلة تمام الاستقلال، ويجعلنا ننظر بزيادة الاهتمام إلى مليكها الحالي، وقد وفاه حقه من المدح والشكر، وعطر الأندية بما هو خليق به من آي الحمد والثناء.
نعم إن النخاسة قد ألغيت من مصر من سنين عديدة، ولكن أحمد شفيق بك أخذ على نفسه أن لا يبقي للاسترقاق فيها رسما ولا اسما، غير أنه آلى على نفسه أن يبتدئ بدحض ما شاع في أوربا من أن الديانة الإسلامية تساعد على النخاسة، فوفى هذا العمل حقه من العناية والدقة في مؤلفه الذي نشير إليه.
وذلك لأنه ابتدأ بذكر خلاصة تاريخية على الاسترقاق عند جميع الأمم، وفي جميع الأعصار، ثم دخل في الموضوع فأثبت أن الديانة المحمدية لا تقر على هذه العادة، بل تسعى في إلغائها مرة واحدة، ولذلك سرد الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، ثم الحوادث التاريخية، ومنها ينتج أن «الديانة الإسلامية قد حصرت من غير شك ولا مراء حدود الاسترقاق، وعملت على إنضاب منبعه؛ إذ حتمت شروطا وفرضت قيودا لا بد منها لوقوع الاسترقاق، وبينت الطرق، وأوضحت الوسائل التي بها يكون الخلاص من ربقته».
ثم قال: «فإن شريعتنا المحمدية قد سعت في تقويض دعائم الاسترقاق وتدمير معالمه ... وهل كان من الموافق المبادرة بتحريم أمر امتزجت به عادات العالم كله منذ ما وجد الاجتماع الإنساني وتوالت عليه الأيام والأعوام والشهور والدهور؟ ألا إن ذلك كان يجر وراءه بلا شك انقلابا عظيما في نظام الاجتماع، وفتنة كبيرة في نفوس الأقوام، فلهذا جاءت شريعة الإسلام بهذه الغاية من طريق آخر تزول أمامه الصعوبات، وتتذلل العقبات، بدلا من تهييج العقول، وإثارة الخواطر والأفكار بإلغاء الاسترقاق مرة واحدة، فخوطب المسلمون بأن يتقربوا إلى الله تعالى بعتق العبيد المساكين في ظروف كثيرة وأحوال متنوعة.
وحث النبي
صلى الله عليه وسلم
كثيرا على السعي في نيل هذه الغاية الجليلة، ولذلك جاءت قواعده في العتق في غاية السعة ونهاية اليسر، بحيث يتسنى دائما للرقيق أن يجد فيها طريقا يساعده على الخلاص من الاستعباد إذا طلب ذلك، بل ولو لم يطلبه.»
ونحن نعد أنفسنا من السعداء لقولنا وإثباتنا أن ديانة غير ديانتنا تنظر إلى هذه المسألة التي تشغلنا الآن بمثل العين التي ننظرها نحن بها، وهذه السطور القليلة التي أتينا على سردها تجعلنا نتعشم أن يكون لنا في المسلمين عضد ونصير لا خصم خصيم.
وفضلا عن ذلك، فإن ما قاله حضرة أحمد شفيق بك يؤيده كتاب القبطان بانجر على الديانة الإسلامية، وقد ظهر هذا الكتاب حديثا، فقد روى هذا السائح المقدام ما يدحض ظن الظانين بأن تعصب المسلمين هو العائق الأكبر للمسيحيين عن افتتاح أفريقيا، ويؤكد أنه في جملة مرار أصاب منهم مساعدة وعناية يشكرون عليها.
ولذلك فإنا نهنئ من صميم الفؤاد حضرة أحمد شفيق بك على البيانات والإيضاحات التي أوردها، ونعضده على المهمة الجليلة التي أخذ فيها.
موريس بوتري
الملحق السابع
وقد جاء إلى المؤلف من حضرة صاحب العطوفة قره تيودوري أفندي سفير الدولة العلية في بروسل عاصمة البلجيكا في 12 نوفمبر الماضي ما تعريبه:
عزتلو عزيزي:
لا شك أنك لا تستغرب عندما تعلم بأن تصنيفك الذي أظهرت فيه البراعة، وراعيت فيه جانب الذمة قد حاز ما يحق له من القبول التام عند كل من يهتم بهذه المسألة الخطيرة التي شغل الناس بالجدال فيها الآن.
أما أنا فقد درسته درسا مدققا، وإني أبادر ببثك آيات التهاني الفائقة الصادرة من صميم الفؤاد، ومما جعلني مبتهجا مسرورا من تلاوته أن القواعد والأصول التي دافعت عنها بنفسي أثناء المناقشة التي وقعت لي شخصيا مع الكردينال لافيجري وفي نفس المؤتمر الذي عقد أخيرا في بروسل - قد صادفت في كتابك تأييدا وتعضيدا مع الآيات البينات والحجج الدامغات والشواهد التي لا تعارض والبراهين التي لا تناقض، فإن هذه الدلائل غير داخلة في معلوماتي عن الديانة الإسلامية، لأن معلوماتي هذه هي بالطبع والضرورة غير مستكملة، وقد كان في هذه الدلائل دحض لجميع المطاعن الصادرة لا عن حق ولا يقين مع مناقضتها (أي المطاعن) للدين المسيحي نفسه تمام المناقضة، ولو أن القائم بها هو من أمراء الكنيسة، وقد تابعه أشياعه من غير ما روية ولا إمعان، فقذفوا بها على ديانة يجهلون أصولها وقواعدها، وأنت تعلم أنهم من بعد ذلك التزموا بتعديل خطتهم وتقليل وطأتهم، وهذا أحسن ما يجب عليهم.
وإني لمسرور لعلمي بأنك مشتغل بتصنيف كتاب واف في هذا الموضوع، وأنتظره بفروغ صبر، لأن فتاوى العلماء والقضاة والدلائل الأخرى التي قلت بأنك ستوردها فيه يكون بها سد لأفواه أولئك الذين يدعون بخدمة الله والكنيسة، ويجعلون مصالحهم وفوائدهم فوق ذلك كله، وأنا على يقين من أنه لا تقوم لهم بعد ذلك قائمة، ولا يبدون أدنى اعتراض، وإني أكون لك شاكرا إذا تفضلت بإتحافي بنسخة من بعد طبعه، ولا شك أن ذلك يكون قريبا إن شاء الله، وإني أشكرك على ذلك مقدما من جميع جوارحي.
وقبل أن أختم هذا الكتاب يلزمني أن أحيطك علما بأني قد اطلعت باهتمام زائد على محاضر الجمعية الجغرافية الخديوية التي تكرمت بإرسالها إلي، وخصوصا كتابك الذي بعثت به إلى جريدة الأچيبسيان غازت، فهو لا يصح الجدال فيه مطلقا، وأذكر لك من هذا القبيل أمرا قد وقع لي، وهو أن الحكومة البرتغالية قدمت مذكرة على (إلغاء الاسترقاق والنخاسة في الأراضي البرتغالية)، وقد جاء فيها من الأغلاط الفاضحة والأوهام الفاحشة أنه «مع احتلال الإنكليز القطر المصري فما زال به سوق للأرقاء، وفيه يشتري الوالي نفسه وأكابر البلاد وأغنياؤها الأرقاء الذكور لتشغيلهم في أعمال الفلاحة، والطواشية لحراستهم، والإماء لحريمهم» (فتعجب)، ولكني أبطلت ذلك ودحضته بالحجج والبراهين حتى ذهبت أمثال هذه الأقوال أدراج الرياح، بحيث إن هذه الجملة قد أسقطت هي وما يماثلها تلقاء احتجاجي الذي مزجت فيه بين الشدة والحق، فلم يظهر لها أثر في المجموعة النهائية المتضمنة أعمال المؤتمر، وهذا أمر محتم علي تحتيما لا مناص لي من القيام به، وقد أديته وفزت في ذلك بالسعادة، وإني لأكون ممتنا شاكرا إذا سنحت الفرصة فبلغت هذه الأحوال المسامع الخديوية العلية.
ثم إني أكرر عليك الشكر والثناء على ما تكرمت به من إرسال كتابك الجليل ... إلخ.
الملحق الثامن
لا يخفى أن القرآن الشريف قد ترجم إلى أغلب اللغات الإفرنكية كلها، بل إن له في بعضها ترجمتين، وقد اتفقوا على أن أحسن ترجمة بالنسبة لبقية التراجم هي الترجمة الإنكليزية ثم الفرنساوية، ولبعضه في الألمانية ترجمة منظومة بالشعر، أقول: وقد استخدم الموسيو لابوم أحد علماء فرنسا الترجمة الفرنساوية التي عني بها الموسيو كازمرسكي، فرتب القرآن على نمط منطقي بحسب المواضيع، خلاف الترتيب المعهود، فجعل جميع الآيات التي لها صلة وارتباط ببعضها في باب واحد، مثال ذلك: جميع أحكام التوحيد وكل ما يتعلق به تراها بعددها وعدد سورها في المصحف في الباب الذي عنوانه (التوحيد)، ومثلها كل ما يتعلق بالكرم والمروءة والقتال والديانات والقصص والطلاق والميراث والمعاملات وغير ذلك.
وقد نقلت عنه جميع الآيات المختصة بالرق وبالخدمة وألحقتها بهذه الرسالة؛ ليتيسر الرجوع إلى التفاسير بكل سهولة، وإطلاع الطالب فيها على التفاصيل التي يريدها.
هذه هي الآيات الواردة في القرآن الشريف كله بخصوص الرق والخدمة، وعددها 234 آية:
سورة محمد 47 - آية 4:
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .
سورة النحل 16 - آية 71:
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون .
سورة النساء 4 - آية 36:
وبالوالدين إحسانا
و... و...
وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا .
سورة التوبة 9 - آية 60:
إنما الصدقات للفقراء
و... و...
وفي الرقاب ...
سورة النور 24 - آية 33:
والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا .
سورة المجادلة 58 - آية 3:
والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا .
سورة المجادلة 58 - آية 4:
فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا .
سورة البقرة 2 - آية 221:
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم .
سورة النساء 4 - آية 24: حرمت عليكم ... و...
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم .
سورة النساء 4 - آية 25:
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم .
سورة المؤمنون 23 - آية 1-6:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين .
سورة المعراج 70 - آية 29 و30 و35:
والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ...
أولئك في جنات مكرمون .
سورة الأحزاب 33 - آية 50:
قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما .
سورة المائدة 5 - آية 89:
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام .
سورة الزخرف 43 - آية 32:
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا .
سورة النور 24 - آية 32 و33:
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ...
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم .
الملحق التاسع
ترجمة حياة الكردينال لافيجري
قد وقفت على فصول كثيرة بشأن هذا الرجل والكلام عليه، وبعضها بمدحه وبيان فضائله، والآخر بذمه وذكر مثالبه، وقد أحببت أن أورد شيئا من أقوال الطرفين لإحاطة القراء الكرام ليكونوا على بينة من أمره.
كتب الموسيو شارل سيمون ترجمة حياة الكردينال لافيجري في صدر كراسة عنوانها «محاربة الاسترقاق»، وهي الكراسة نمرة 220 من ضمن الكراسات الأسبوعية التي تصدرها باسم المكتبة الأهلية الجديدة
Nouvelle Bibliothèque Populaier
قال فيها ما خلاصته:
ولد شارل مارسيال المان لافيجري في مدينة بايون في 31 أكتوبر سنة 1825، وأراد أبوه أن يخرجه في علم القوانين، ولكن أمياله اتجهت إلى الكهنوت، فدخل بمدرسة سان سولبيس، ثم عين أستاذا للتاريخ الكنائسي في مدرسة السوربون بعد أن نال رتبة الدكتورية في اللاهوت، واشتهر بفصاحة التعبير وحسن الإلقاء.
ولما وقعت الفتن في سنة 1860 في بلاد الشام أرسل في مأمورية إلى بلاد المشرق، وفي سنة 1863 عين أسقفا لمدينة نانسي في فرنسا، وبعد ذلك بأربع سنوات أنشئت لأجله وظيفة رئيس الأساقفة في مدينة الجزائر، ومن ذلك العهد ظهرت أعماله وشاعت فضائله، ولما انعقد مجمع رومة في سنة 1870 كان من أول القائلين بعصمة البابا، وترشح للانتخاب بالنيابة عن مقاطعة البيرنات السفلى، فلم ينجح وخاب خيبة سياسية أخرى في الانتخابات التي وقعت سنة 1871، وفي عام 1874 أسس إرسالية الصحراء والسودان، ثم نظم طائفة الآباء البيض في الجزائر، وبعد ذلك في طرابلس وفي تونس، وهو من أكابر رجال هذا العصر، بل قليل منهم من تنجذب إليه النفس وتميل نحوه العواطف مثله، وفي ملامحه اللطف والطيبة والثبات، وهو من البلاغة والفصاحة بمكانة قل أن يناظره فيها غيره، وقد أتى بكثير من الأعمال الخيرية التي تخلد له الشكر مدى الدهر، وقد اكتسب رتبة الدكتورية في الآداب وفي الحقوق وفي اللاهوت وهو من أفاضل الأدباء وأكابر المحققين، ولو أنه اشتغل بالأمور الدنيوية لكان الآن متربعا في أرقى المناصب وأسنى المراتب، لأنه جمع صفات السياسة والكياسة والدراية والتنظيم والترتيب وصدق العزيمة وثبات المقصد، وغير ذلك من جميل الخلال.
ولا تسل عما أتاه هذا الرجل من الأعمال لتقدم أفريقيا، فإنه يجل عن الحصر، ويكاد يغيب عن الذكر، ولذلك فلا غرابة في أن العرب الذين خدمهم الكردينال خدمات فائقة في مدة القحط الذي وقع سنة 1867 سموه المرابط الأكبر والوالي الأعظم، وجاهروا بأنه إذا كان غير المسلمين لا بد من دخولهم جهنم (في الكوشة) بنص القرآن فلا شك أن الكردينال لافيجري مستثنى من ذلك، وقد ساعد على توطيد أركان السلام في تونس أكثر من جيش فيه 100000 مقاتل.
هذا هو رأي غامبتا، ومما يزيده اعتبارا أن غامبتا ما كان يخفي عداوته وكراهته للأعمال الكاثوليكية، وقبل مجيء الكردينال لافيجري إلى تونس لم يكن بها مستشفيات ولا مدارس ولا تكايا للفقراء، بل ولا مقبرة للنصارى، فلم تمض سنتان حتى بدل الأوضاع وأذهب الأحقاد، وهدأ الخواطر، وجمع الكلمة، وأسس كثيرا من العمائر الخيرية والوطنية والدينية، وجمع لها المال اللازم بنفسه من أفراد الناس، وقام في جميع أنحاء تونس بالتأسيس والعمارة والترميم والتعليم والتنظيم، وبعث بالإرساليات الدينية إلى أواسط أفريقيا، وشاد كنيسة كتدرائية (جامعة) مؤقتة في تونس في ظرف ستين يوما فقط، وبنى المدرسة الجميلة المعروفة بمدرسة سان شارل، وأوجد جبانة وديرا في مدينة تونس، وأقام كنيسة كتدرائية في قرطاجة، وأكثر المدارس المجانية والمستشفيات والملاجئ الخيرية في كل مكان، وجال في أقطار أفريقيا كنهر يفيض بالخيرات والبركات، ولكن الصنيع الذي يخلد ذكره على مدى الأدهار هو مشروعه الفائق الفاخر الذي غايته منه إحداث العقبات في طريق النخاسين، وإشهاره الحرب العوان عليهم، وقد فاز في ذلك فوزا عظيما؛ إذ جعل الملوك والأمم تنضم إلى لوائه في هذا الجهاد، ولهذا المقصد ألقى خطاباته الطنانة الرنانة التي سارت بذكرها الركبان في جميع أقطار أوربا، وهي في غاية البلاغة لما صورته من الأفكار السامية والحقائق التي تتصدع لها الأفئدة. ا.ه. ملخصا.
وقد رأيت في معجم المعاصرين
Dictionnairo des contemporains
ما تعريبه:
لافيجري هو من أحبار فرنسا، وقد تحصل على رتبه الدكتورية في اللاهوت، واشتهر في التعليم وصار مدرسا للتاريخ الكنائسي في مدرسة باريس العليا
Faculté de Paris ، وقد وظف في وظائف شرف كثيرة في معية البابا برومة، ثم بعد ذلك صار عضوا في المجلس الإمبراطوري للمعارف العمومية، ثم عين رئيسا لأساقفة الجزائر، فأسس فيها مدارس أيتام كثيرة، وخصصها لأولاد العائلات العربية التي برح بها الفقر، وعضتها أنياب الاحتياج، وقد حاول نشر الديانة النصرانية فيما بين أولاد أهالي الجزائر فناوأته الحكومة الحربية فيها، وعارضته معارضة شديدة استوجبت وقوع جدال هائل بينه وبين المارشال ماكماهون (سنة 1868)، وهو حائز لنشان أوفيسيه دولا ليجيون دونور، وله كتب ابتدائية، وله كتب كنائسية.
وقد اطلعت على أشياء كثيرة تخالف ذلك بالمرة، ولو أن أغلب الساخطين على الرجل يعترفون بفضله وسعة اطلاعه، فمن ذلك خطبة ألقاها بمدينة شنتو
Cento
من أعمال إيطاليا في يوم 30 أغسطس سنة 1891، حضره الأستاذ بالوني المدرس الآن في المدرسة الطليانية بمصر القاهرة، فاستخلصت منها ما يأتي، قال في سياق كلامه:
لافيجري يساعد على إزالة أطلال قرطاجنة، وتبديد معالمها، ليأخذ ما يجده فيها من المخلفات والآثار القديمة، ويرسلها إلى فرنسا، وأنه يسعى لنوال غاية سياسية، مالية ولذلك استحوذ على الأرض التي لإرسالية الكبوشيين
Capucins ، وقد تأسست هذه الإرسالية في مدينة تونس منذ 300 سنة، ثم طرد الأسقف سونر ليأخذ مركزه لنفسه، واجتهد في وضع يده على الأرض المخصصة للمقبرة القديمة التي باسم سانت أنطوان، وهي ملك المستعمرة الكاثوليكية في تونس ملكا مؤبدا، ثم طرد من بقي من رهبان الإرسالية المذكورة واستبدلهم بآخرين من الفرنساويين، وطرده للكبوشيين من تونس ليس من السياسة في شيء، ولكنه عمل يخالف الأدب والدين مخالفة فاضحة، وقد اشتهر هذا الرجل في علاقاته مع النساء بما ينافي قواعد الأدب وواجبات الحشمة بالمرة، وما زال الناس في رومة يذكرون الاسم الذي أطلق عليه فيها أيام كان نازلا بها في صباه، فقد عرف عند الخاص والعام بأنه زير النساء
coureur de femmes
في ميدان إسبانيا، وأنه ليطلب لنفسه أن يرتقي إلى البابوية فيكون أكبر أكابر النصرانية، ويقال إنه إذا نال هذه الغاية جعل مركزه في أفريقيا، وجنوده من القساوسة الذين يقال عنهم إنهم يسعون في إلغاء النخاسة قد أوغلوا في الصحراء، واقتربوا من أبواب بلاد التكرور (بلاد النجر) حيث تقع هذه التجارة حقيقة، ولكن هناك أمرا لا يفهمه الإنسان في أعمال هذا الكردينال التي يتخذها ضد الاسترقاق، وذلك أنه يجتهد في تحرير الأرقاء في البلاد الشاسعة القاصية على يد قسوس قد سلحهم بالبنادق والمدافع، ومع ذلك نستغرب منه في تونس التي نراه فيها حاكما مطلق التصرف يمكنه بكلمة واحدة تحرير عدد عديد من الأرقاء والإماء، وخصوصا الإماء، فإنهم ما زالوا في دور الأغنياء ومنازل الكبراء، إذ إنه يترك الفخر في البحث على إنقاذ الأرقاء في الحاضرة (تونس) نفسها إلى قنصل إنجلترة، وهو القادر على تمام ذلك من غير اتخاذ الرهبان المجندين ومن غير استعمال البنادق والمدافع، ولا أقول ذلك جزافا، بل إنني بنفسي أخذت من قنصلاتو إنجلترة جارية من ضمن 29 جارية أعتقها القنصلاتو مرة واحدة، ولا شك أن أوربا تجهل ذلك، ولافيجري يسكت عمن يخبره بمثل هذه الأمور، ولا غرابة؛ إذ إن تحرر الأرقاء في تونس لا يستوجب إنفاق الدرهم والدينار ولا يستلزم جمع القناطر المقنطرة لأجل الاستحصال على الممالك الأفريقية، بحجة إنقاذ الأرقاء من ربقة الاستعباد.
وقد قابلت كثيرين من الذين عرفوه أيام إقامتهم الطويلة بتونس، فأخبروني عما يأتي بعضه:
هذا الرجل يشتري الأرقاء من أواسط أفريقيا، ثم يأتي بهم لتونس، ومن هناك يرسلهم إلى مالطة فيجبرهم على تغيير الإسلامية واعتناق الديانة النصرانية، وبعد أن يعلمهم فيها ويصيرهم أساقفة يدعوهم «الآباء البيض» ويبعث بهم إلى أواسط أفريقيا ثانية لأجل إلزام أقرانهم وإخوانهم بترك ديانتهم والاقتداء بهم في التمذهب بالنصرانية، وقد اشترى عربات لدفن الموتى وخيولا وبغالا ثم باع ذلك كله بأثمان باهظة إلى القومسيون البلدي في تونس فأصاب من ذلك ربحا عظيما. ومما يحكى عنه أيضا أنه منذ ست أو سبع سنوات كان له كروم يقوم بها رجل من الفلاحين، ويعتني بشأنها، فطرده ووضع قسيسا في محله، ولجهل هذا بأمور الزراعة والعناية بالكرم فسد العنب، ولم يأت بالخمر المعتاد الحصول عليه، فغضب لافيجري على القسيس المتفلح وعاقبة بعقوبة غريبة؛ إذ ألزمه برعي الغنم والمواشي في ضواحي سيدي بوسعيد في المرسى. وأسس مدرسة سان شارل ثم باعها للحكومة في تونس بربح عظيم جدا، وله في الجزائر مزروعات من الخرشوف والكروم يستغلها كأنه رجل من الأهالي ليس منقطعا للدين وخدمته.
وأهم المزايا التي في هذا الرجل أنه على درجة عظيمة من الفهم والعرفان، وأنه متحصل على رتبة الدكتورية في اللاهوت والطب والحقوق والعلوم والفلسفة، وإذا خطب خلب الألباب وتملك العقول ولعب بالأفكار كيفما شاء، وفي وجهه سماحة وبشاشة تغران الإنسان ولا تخبرانه بما انطوى عليه من سوء المقاصد ورذيل السجايا، والحق أنه تاجر لا خادم للديانة، وإذا عاداه أحد أشهر عليه الحرب العوان، وواصل عليه الطعان حتى لا يكون له مخلص منه ولا مناص. وقد أرسل رجلا من أشياعه إلى مالطة وعينه في وظيفة دينية على شرط أنه يخصص له نصف وظيفتها ودخلها، فتم الأمر، ولكن الرجل كان معه تعليمات سياسية أخرى، فلم يتبصر في كيفية إنفاذها، ومما يدل على ذلك أنه قام ذات يوم على مائدة جمعت كثيرا من الناس، ثم رفع الكأس قائلا لتحي الجمهورية الفرنساوية، فطردته الحكومة الإنكليزية منها.
وقد رويت لي أشياء كثيرة أجتزئ عنها، ففيما سبق كفاية.
هوامش
Página desconocida