كان وجود البحر مفاجئا للغاية، وكان غضبه وامتداده غامرين، حتى إنه وقف مكانه كأن على رأسه الطير لحظات طويلة قبل أن يدرك أن الرمال التي أحضرته إلى حافة العالم الغربي في شهر مارس كانت موجودة هنا. كانت هذه الرمال هي الرمال المغنية.
لم يكن هناك شيء يغني اليوم سوى الرياح والمحيط الأطلنطي. كانا معا يحدثان جلبة كأنها موسيقى فاجنر، كانت تكاد تصدم المرء جسديا مثلما تفعل العاصفة ورذاذ الموج. كان العالم أجمع ضجة جنونية من اللونين الأخضر الرمادي والأبيض والضوضاء الجامحة.
سار على الرمال البيضاء الناعمة إلى حافة المياه، وسمح لذلك الهدير أن يغشاه. من مسافة قريبة كانت له ميزة لا شعورية بددت شعوره غير المريح بالتضاؤل وجعلته يشعر بإنسانيته وتفوقه. أدار ظهره له على نحو يكاد يتسم بالازدراء، مثلما يفعل المرء مع طفل غير مهذب تصرف بطريقة حمقاء أو محرجة على مرأى ومسمع من الجميع. شعر بالدفء وبالحياة تدب في جسده وبأنه سيد نفسه؛ شعر بأنه ذكي ذكاء مثيرا للإعجاب ، وأنه واع على نحو يثلج الصدر. عاد أدراجه سائرا على الرمال، وهو مغتبط غبطة غير منطقية ومفرطة بأنه بشر وعلى قيد الحياة. حين أدار ظهره للرياح المالحة الناضبة القادمة من البحر، كان الهواء الذي أتاه من اليابسة لطيفا ودافئا. كان أشبه بالهواء الذي تلقاه حين انفتح باب المنزل. تابع مسيره على الأرض العشبية من دون أن يلتفت خلفه مرة واحدة. لاحقته الرياح على طول الأراضي السبخة المنبسطة، لكنها لم تعد في وجهه ولم تعد رائحة الملح في أنفه. كان أنفه ممتلئا برائحة الأرض الرطبة الطيبة؛ رائحة الأشياء التي تنمو وتزدهر.
كان سعيدا.
وحين وصل أخيرا أسفل المنحدر إلى الميناء رفع بصره إلى التل الواقف وسط الضباب، وقرر أنه سيتسلقه غدا.
عاد إلى الفندق جائعا، وشعر بالامتنان حين لم يقدم له في وجبة الشاي سوى شيئين من صناعة محلية. أحدهما كان طبقا من قريصات الكعك أعدته كاتي آن، والآخر كان «سليشاكس»؛ وهو طعام شهي كان يعرفه منذ زمن طويل. كان سليشاكس عبارة عن بطاطا مهروسة ومقلية في شكل شرائح؛ ولا شك في أنها ساعدته في فتح شهيته لما تبقى من اللحم البارد المتبقي من طعام الغداء، والذي كان الطبق الرئيسي في الوجبة. لكن وبينما كان يتناول طبقه الأول ظلت تداعب أنفه رائحة ذكرته بأيام منطقة ستراثسبي الخوالي، وكانت أكثر إثارة للعواطف والذكريات حتى من طبق سليشاكس. كانت الرائحة حادة وخفيفة في نفس الوقت، وكانت تجوب أرجاء ذهنه في نشوة مثيرة من الحنين إلى الماضي. ولم يعرف ماهية تلك الرائحة إلا حين غرس سكينه في إحدى الكعكات التي أعدتها كاتي آن. كان الكعك مصفرا بفعل الصودا وغير صالح للأكل إلى حد كبير. وبتحية، متسمة بالحسرة، لكاتي آن من أجل الذكرى التي أحيتها (طبق مليء بالكعك المصفر المشبع بالصودا، موضوع على طاولة مطبخ المنزل الريفي لتناوله مع الشاي، أوه، «تير نان أوج»!) دفن كعكتين من كعكات كاتي آن تحت الفحم الملتهب في المدفأة واكتفى بخبز جلاسكو.
وفي تلك الليلة خلد جرانت إلى الفراش من دون أن ينظر إلى ورق الحائط أو يتذكر النافذة المغلقة على الإطلاق.
الفصل السابع
في الصباح تقابل مصادفة مع نيافة القس السيد ماكاي في مكتب البريد وشعر بأنه يوزع أفضاله بنجاح كبير. كان السيد ماكاي في طريقه إلى الميناء ليرى ما إذا كان طاقم قارب صيد سويدي قابع هناك يرغب في المجيء إلى الكنيسة إن كانوا سيظلون موجودين حتى يوم بعد غد. وعرف أنه توجد أيضا سفينة هولندية، يفترض أنها تتبع مذهب الكنيسة المشيخية. وإن أظهروا أمارات على الرغبة في المجيء فسيقوم بإعداد عظة بالإنجليزية من أجلهم.
تبادل مع جرانت حديثا عن الطقس السيئ. كان الوقت من العام لا يزال مبكرا على المجيء إلى الجزر الغربية، لكنه رأى أن على المرء أخذ إجازات حين تسنح له الفرصة لذلك. «لعلك مدرس في مدرسة يا سيد جرانت.»
Página desconocida