وكان غريبا منها، وفي ظرف كالذي كنا فيه، وفي أحرج فترة، تلك الواقعة بين إخراج الثور وإدخال الآخر الذي لا بد أنه أقوى وأكثر وعورة وخطرا، خطورة حتما سيتحمل وزرها وضراوتها صديقها الميتادور الذي خصها بعنايته والذي تحمل له الزهور. غريب منها في لحظات حرجة كتلك أن تستطرد سارحة أيضا وتائهة، لا لتكمل النقاش حول كيفية إخراج الثور، وإنما لكي تسألني عن شيء خاص بي أنا، عن جنسيتي. سؤال لم تصدق أني أقول لها الحقيقة مجيبا عنه. وبعناد غريب يضحك رفضت أن تقتنع أني عربي من مصر، وحمدا لله أنها اكتفت بهذا الرفض ولم تشأ أن تفرض بمنطقها شديد المراس المدلل جنسية أخرى. والظاهر أننا كنا لا بد سنصل عاجلا أو آجلا إلى الموضوع الذي تحاشيت دائما أن نخوض فيه؛ فقد سألتني عن رأيي في كاسترو وثورته. وكأنما كانت تتوقع الإجابة فلم يبد عليها الامتعاض الكثير الذي توقعته، وإن شعرت أن مجرد نطقي بالرأي قد حدد إلى درجة ما علاقتنا إلى الأبد، وجعلها تنزل من ناحيتها حاجزا سميكا لا يمكن اختراقه أو تجاهله. ومن خلال الحاجزين، ذلك الذي أسدلته من ناحيتي والذي أسدلته من ناحيتها، بدا أن لا محل ولا مجال لأية خطوة مقبلة نخطوها معا؛ فالأمر عندها ليس خلافا في الرأي أو سياسة. ليس هناك إلا واحد من اثنين؛ إما أن تكون معها فأنت حينئذ صديقها، أو عليها وضدها لكي تصبح عدوها اللدود الذي لا تتورع عن محاربته بكل سلاح وأي سلاح! والناس بالتالي ليسوا في نظرها بشرا لهم حيواتهم ووجودهم وآراؤهم الخاصة، ولكنهم أيضا إما معها أو ضدها، إما أعداء أو أصدقاء ولا وسط ولا حياد. والعداوة عداوة كاملة! والصداقة أيضا ليس فيها درجات! فهي تبغضك إذا نسيت وتجاهلتها ولم تحبها، تماما مثل بغضها لك إذا قتلت أباها. عداوة وصداقة ليست بالعقل ولا بالمعقول ولا تخضع لمنطق أو حجج؛ فهي لا تستطيع أن تبرر لك عقليا كرهها لكاسترو، وتجد أن من الإهانة لها أن تطلب منها تفسيرا لرأيها؛ إذ يكفي جدا أنها هكذا أرادت وعليك أن تقبل وليس على العالم إلا أن يخضع لتلك الإرادة وإلا عادته وأصبح في نظرها هو ذلك العالم المقيت السخيف الذي لا معنى له.
وكم أحسست بنفسي موزعا مشتتا بين كلامها الذي يكشف عن شخصية جديرة بالدراسة والتفرج، وبين انشغالي الأعظم بالمصارعة وبالثور الذي خرج، وبصديقي الميتادور وغريمه الذي لا ريب سيدخل حالا. أريد أن أترك كل شيء وأسمعها ولا أستطيع إلا أن أهب نفسي تماما للدقائق الرهيبة التي يضمني فيها ذاك العالم الجديد علي تماما.
غير أن الواقع نفسه لم يلبث أن تكفل بضبط اهتمامي؛ فقد تصاعد صوت الأبواق يعلن فتح الباب للثور الجديد.
واندفعت الكتلة السوداء داخله، وأسكت دخول الثور الساحة تماما وقضى على كل ما كان باقيا من همهمات؛ فقد اختير وكأنما ليفحم الجمهور الحاضر ويغلق أفواهه. بدا للأعين أضخم من كل ما سبقه من ثيران وأكثر قوة وشراسة. ولم يندفع إلى الحلقة في جري مراهق مجنون مثل سابقيه، ولا مضى بحمق وإسراف وبذخ يبعثر قواه في سباق موهوم لا طائل من ورائه. بدا وكأنه مدرب محترف لا حد لثقته بنفسه، يدخر قواه كلها إلى اللحظة التي يلمح فيها هدفا أو تتحرك أمامه عباءة. حينئذ وباندفاع ديناميتي صاعق، وفي أقل من غمضة عين يكون قد انطلق ووصل وانقض على الهدف مكتسحا إياه بكل سرعته وكتلته، وما في جسده المحشو من طاقات، وكأنه «بولدوزر» خرافي كفيل بتحريك الجبل إذا اعترضه، بل كفيل بسحقه ونسفه وتحويله إلى هباء . ثور ما كاد يدخل ويلوح له بالعباءة مرة أو مرتين، ويقطع الدائرة الرملية منقضا، ويبدأ الناس يمعنون فيه النظر ويتأملونه حتى تأكدت أن كلا منهم لا بد أصيب بنفس القشعريرة التي أحسستها، حتى وأنت واثق تماما ومتأكد أنك بعيد عنه وأنه لن يقترب منك أبدا ومستحيل أن يهاجمك، لا تملك إلا أن تحس بالخوف، ذلك النوع من الخوف الذي نشعر به تجاه كل شيء مهول مطلق بغير حدود، تجاه كل ما ليس له ند، تجاه كل ما لا يمكن التصدي له أو مقاومته.
ولأول مرة أحسست بالقلق العظيم يتحول إلى خوف حقيقي، خوف على صديقي الميتادور الذي كان عليه أن ينازل هذه القوة الغاشمة المطلقة. صحيح هو قد أثبت لي وللألوف الثلاثين ومنذ وقت قليل أنه بطل وأنه حاذق، وأن باستطاعته أن يصرع الثور في لمح البصر.
ولكن ما رأيناه شيء وما كنا نراه شيء آخر.
رحت أتأمل الثور وأعود أتأمل الجزء الظاهر من جسد صاحبي الدقيق النحيف، وما من مرة أعقد المقارنة إلا وأحس أني على وشك أن أصرخ طالبا منه أن يترك الساحة وينسحب. وكأنه سمع الصرخات التي لم تنطلق؛ ففي تلك المرحلة الأولى حيث يتناوب المصارعون محاورة الثور لدقائق قليلة لاختبار مدى قوته وإدراك نقط ضعفه ومعرفة طريقته في الهجوم ومبلغ تحكمه في جسده وأطرافه، خرج له صاحبنا يتحداه ويستفزه بجسد بدا أنحف وأدق مما كان، ووجه يكاد يتحول إلى مستطيل.
وانقض الثور بكل عنفه وقواه، وببساطة غريبة تحاشى الميتادور هجمته، وانقض ثانية وتحاشاه، ومرة ثالثة استجمع كل البدائية والتوحش وانقض وتحاشاه، وتصاعد من «الأرينا» تصفيق كأنه علامة اطمئنان كبرى.
واسترجعت بعض أنفاسي، وتضاءل خوفي ولكنه ظل هناك.
وبدأت مرحلة البيكادورز راكبي الأحصنة. مرحلة الطعن للإضعاف. ولم يقدر للفارس الأول أن يفعل شيئا؛ فبضربة واحدة من قرنيه أطاح الثور بالفرس وألقاه كتلة لا تتحرك في ناحية، وسقط الفارس في ناحية أخرى. ضربة من القوة بحيث اعتقد الناس أن الفارس والفرس قضيا، ولكن كان لا يزال في عمرهما بقية، وتكفل ثمانية مصارعين بشغل الثور وقتا أمكن فيه إيقاف الفرس المكوم وإخراجه، وكذلك فعلوا بالفارس.
Página desconocida