وهذه القيمة - قيمة العصامي الذي بلغ في المكانة الاجتماعية مبلغ ذوي الرأي - هي هي التي جعلت لكتابته السياسية صبغة كصبغة اللغة الدبلوماسية بين وزراء الخارجية والسفراء، وهي هي التي جعلته يعتزل الصحافة بعد أن أسندت إليه وظيفة «سيد السادات» أو شيخ الطريقة الصوفية.
وقد كان يكتب عن خصوم القصر الخديوي جميعا، فيبيح لقلمه من المغامز في الكتابة عنهم ما يرضي القصر ويستجيب لأمره وإيعازه، ولكنه كان يأبى كل الإباء أن يحمل على رجل ممن أحسنوا إليه في نشأته الأولى، كمحمد عبده، وحسن عاصم، وسعد زغلول؛ لأن هذه المحافظة على سمت الرجل الكريم تدفع عنه سبة النعمة المحدثة والمقام المدخول.
فإذا جاء بين تضاعيف الأخبار في صحيفة «المؤيد» شيء يمس هؤلاء مرضاة للحاشية الخديوية، فإنما كان يترك كتابته لغيره أو يفرغه في القالب الذي يوافق مظهر الكرامة وينفي عنه شبهات العتب والملام.
غير أن المحافظة على المظهر شيء، ومطاوعة الحيلة والدهاء من وراء الستار شيء آخر؛ ففي الوقت الذي كان فيه التشهير الصريح باسم محمد عبده محرما على أقلام المؤيد، كان وكيل المؤيد بالآستانة يتطوع لمصاحبة الشيخ المفتي الغريب عن المدينة، فيقحمه من مواطن الفرجة ما يتحاماه أمثاله، ويتواطأ بذلك مع رؤساء الشرطة ليفجئوا الشيخ والوكيل بين مواطن الريبة، ثم ينتهي الأمر إلى «وصمة» شائنة تصيب الشيخ في دار الخلافة الإسلامية، فلا يشق على الخديو بعد ذلك أن يعزله من مناصبه الدينية برخصة من مقام الخليفة الأعظم، ويتراجع أمامها مجلس الوزارة في مصر، فلا يعتبر عزل المفتي في هذه الحالة إخلالا بنظام العزل والتوظيف. •••
وقد عمت الصبغة الدبلوماسية كل منحى من مناحي تفكيره وعمله في السياسة، وفي علاقاته بالسياسيين الوطنيين وغير الوطنيين، وظهرت في كل تصرف من تصرفاته العامة حتى في صياغة المبادئ الوطنية التي قررها لحزبه أساسا للمطالبة بحقوق الأمة ونظام الحكومة، فقد أوشك أن يجعل هذه المبادئ توريطا دبلوماسيا من كلام المحتلين أنفسهم؛ ليسكتهم ولا يفتح لهم بابا للاحتجاج على ولي الأمر أو اتهامه بتحريض الصحف والأحزاب عليهم؛ إذ كان انتساب الشيخ علي يوسف إلى القصر الخديوي أمرا مفروغا منه، مفهوما بالتواتر بين دوائر السياسة الشعبية والرسمية في القاهرة وعواصم الدول ذات الامتيازات في هذه البلاد، وكان وكلاء «المؤيد» يزورون الدواوين - خارج القطر - كأنهم ملحقون بسفارات القصر، قبل أن توجد له سفارات.
فالمحتلون كانوا يسمون أنفسهم بالمصلحين، ويقولون إن إصلاح الأداة الحكومية غرض من أغراضهم الأولى التي ينجزونها قبل مغادرة البلاد.
والشيخ علي يوسف يسمي حزبه بحزب الإصلاح، فأي اعتراض للدولة البريطانية عليه أو على الخديو إذا أقام قواعد حزبه على المطالبة بالإصلاح؟!
والمحتلون كانوا يقولون إنهم يدربون المصريين على حكم أنفسهم ويحولون بين الأمير والاستئثار بالسلطة في مسائل الإدارة والمال على الخصوص.
والشيخ علي يوسف يقيد الإصلاح بأنه «إصلاح على المبادئ الدستورية»، ولا يذكر الدستور على إطلاقه لأنه قد يزعج الدولة العثمانية صاحبة السيادة التي لم تكن في بلادها حكومة نيابية، وقد يزعج الإنجليز أصحاب السلطان الفعلي كما يزعج الخديو صاحب السلطة الشرعية.
ولما ذكر «الاستقلال» ذكره مشروطا بالمعاهدات التي ارتبطت بها بريطانيا العظمى، وقال إن تحقيقه تنفيذ لوعود هذه الدولة بالجلاء، وقد زادت هذه الوعود على السبعين.
Página desconocida