76

ي لخير البشرية

ولو كانت طواعية النظم للناظم آية الملكة الشعرية لكان «فريد وجدي» في طليعة الشعراء المطبوعين، ولكن سهولة نظمه كسهولة نثره، كلتاهما دليل على بساطة في الطبع، سلمت من العقد المركبة وتقابلت فيها الأعماق والظواهر بغير حجاب من خفايا النيات وعوج الأهواء، فلا تشق عليه سلاسة التعبير ولا سلاسة التفكير.

ومن صراحة خلقه وإيمانه باستقلال الرأي عنده وعند غيره، أنه كان يستمع إلى رأيي في شعره فلا يغضبه ولا يهمه أن يكون له حظ من الشعر أكبر من حظه، وقد قلت له مرة: حسبك من الشعر ما يقنع قلب المتصوف ولسانه. فقال: والله إنه لخير كثير، ومن لنا ببعض هذا النصيب؟ •••

روى العالم اللغوي الشيخ «عبد القادر المغربي»، وهو من تلاميذ السيد «جمال الدين الأفغاني»، أن السيد عرض عليه الزواج فقال: إن «جمال الدين»، وهو متزوج رب أسرة وصاحب بيت، يأوي إليه بين أهله وبنيه صورة من صور الخيال، أغرب من صورة الشيخ «عليش» وهو يسعى إلى «الأزبكية»، ليجلس إلى حانة من حاناتها ويصفق بيديه يستدعي «الجرسون»، ليأمره بسؤال من حوله عما يطلبونه من مشارب الحانات.

أقول إنني قد رأيت بعيني في الواقع ما هو أغرب من هاتين الصورتين، وهو منظر «محمد فريد وجدي» يتمشى في قلب «الأزبكية» بين المتاجر والحانات، وهي لا تدري من هذا الذي يغيب في أطوائها بين هذا الزحام، ولعله هو أيضا لا يدري أن هذه هي «الأزبكية»، إلا كما يدري الطيف في الصور المتحركة أين يضعه المخرجون بين مشاهد الأفلام.

فقد كان السير على الأقدام من رياضات الرجل قبيل الأصيل كل نهار، وكان يمضي في رياضته حيث ساقته قدماه؛ تارة إلى مفازة الخلاء، وتارة أخرى إلى حي «السكة الجديدة»، وحينا إلى قصر النيل، وحينا آخر إلى شارع «جلال» أو «عماد الدين»، ولا يحس من يراه في مكان من هذه الأمكنة، وهو ينظر إلى ملامح وجهه، أنه يفرق بين مكان منها ومكان سواه، كأنه «لانطوائه على نفسه» يتمشى في عالم السريرة ولا يتمشى في عالم العيان.

وكنت أراه أحيانا في طريقي ولا أعرف من هو بين غمار الناس، على علمي ببعض آثاره وسماعي ببعض أخباره، ومنها في قفشات الأدباء «أولاد البلد» أنه يعيش فيما وراء المادة، في عطفة من عطفات عالم الروح.

فلما رأيته لأول مرة بعد إعلانه عن إنشاء صحيفة الدستور أسفت لما فاتني من الشعور بتلك الأعجوبة التي كنت أشهدها كما يشهدها غيري من عابري الطريق ، ولا يشعرون بها! «ما وراء المادة» كله ينتقل إلى حي «الأزبكية» في ضوء النهار؟!

إنني لأشعر اليوم أنه منظر عجب غاية العجب: منظر أعجب من «جمال الدين» رب الأسرة والدار، أو منظر الشيخ «عليش» جليس القهوة والبار.

وقد صحبته في رياضة من هذه الرياضات أول يوم لقيته فيه، فعلمت حقا أنه كان يغشى تلك الأماكن وكأنه لا يغشاها؛ لأنه يستطيع أن يمضي في عزلة عما حوله، كما يستطيع أن يجلس إلى مكتبه ليكتب ويفكر ويناجي سريرته، ولا يدري من يخاطبهم ويخاطبونه أنه بعيد عنهم وأنهم بعيدون عنه، في عالم آخر من وراء المادة، إذا شاء «أولاد البلد» الظرفاء.

Página desconocida