ولا بد من ذكر الحرب الروسية اليابانية في هذا المقام؛ لأنها كانت في الواقع محور المحاور في ميادين العصبيات السياسية والوطنية، والصحفية والأدبية يومذاك، بل كانت محور المحاور في كل عصبية يثور لها الشباب الذي يعنى بشأن غير شئون الخاصة كيفما كان.
وكان النزاع حول الطرفين - روسيا واليابان - يشمل ضروبا من النزاع حول كل موضوع عام يشغل أذهان الناشئة على الخصوص.
فكان النزاع الوطني يميل بالأكثرين من الشبان المصريين إلى جانب الدولة الشرقية الناهضة، أو دولة «الشمس المشرقة» التي ألف فيها مصطفى كامل كتابه بهذا الاسم، كأنها المثال الأول للأمم الشرقية المجاهدة في قضايا الحرية والنهضة والاستقلال، وفيها يقول حافظ إبراهيم:
هكذا الميكاد قد علمنا
أن نرى الأوطان أما وأبا
وكان التنافس بين خريجي المدارس الإنجيلية والمدارس المحلية الأرثوذكسية على أشده وأوسعه في عواصم الصعيد، ولا سيما في أسيوط؛ فكانت روسيا رمزا لعصبية المدارس الأرثوذكسية، وكانت اليابان رمزا للعصبية الأخرى؛ لأنها صديقة الدول الإنجيلية التي تعادي روسيا في قضايا السياسة العالمية، وفي مقدمتها إنجلترا والولايات المتحدة.
وكانت العداوة بين دولة القياصرة ودولة الخلافة الإسلامية سببا لعصبية أخرى، جمعت أنصار دولة الخلافة إلى صف واحد يناصر اليابان، في سبيل الوطنية وفي سبيل الدين.
وكان أصحاب المقطم والمقتطف للمرة الأولى في صف واحد مع أنصار الوطنية وأنصار الدولة العثمانية، مع ما هو معروف من موقفهم حيال تركيا وحيال بريطانيا.
أما عصبية الثقافة، فقد أبرزت أمام الخريجين من المدارس الإنجيلية اسمي: «يعقوب صروف» و«فارس نمر» صاحبي المقتطف والمقطم؛ لأنهما كانا في عالم الكتابة أنبغ من اشتهر من كتاب العلم والسياسة في عالم الصحافة الشرقية. وكانت هذه العصبية تبلغ الهزل على ألسنة المتشيعين لهذين الكاتبين، حين يجعلونهما موضوعا من موضوعات النظم شعرا وزجلا، وهم لا يحسنون هذا ولا ذاك باللغة الفصحى ولا باللغة العامية، ومما يحضرني من أبيات «الزجل» في الثناء على «فارس نمر» قول أحدهم:
فارس نمر تعلملي وتهذبلي
Página desconocida