ارتفعت الطائرة في الجو وأصبح كل شيء أبيض، خفيفا بغير وزن كالهواء. لا أرض ولا سماء ولا ألوان إلا ذلك البياض المتكثف كرغوة صابون بغير ماء.
للحظة خاطفة غمرتني سعادة، إحساس طاغ بالخلاص من الخوف، ثقل الأرض تحت جسدي، وثقل جسدي فوق الأرض، وثقل الهواء في صدري، وثقل الأصوات في أذني، وثقل العيون في عيني.
من شدة الفرح قفزت، لكن جسدي لا يزال مربوطا في ومعه الخوف. لا هرب منه ولا فرار، سأظل إلى الأبد مشدودة إليه مربوطة فيه كوتد.
تجمع الحزن العتيق وأخذ يضغط على معدتي من تحت حزام المقعد، الألم القديم والطنين في أذني، ومن وسط السحاب الأبيض برز الجناح الفولاذي.
أغمضت عيني فأصبح السحاب أحمر ثم أسود، وجناح الطائرة الأبيض يقذف ما يشبه اللهب، وعلى الرمل الأصفر في قاع الأرض البعيد طفل منكفئ على وجهه يسيل من زاوية فمه لعاب أحمر، لم أر وجهه لكن أصابع يديه كانت ملوثة بحبر أزرق، وأصبع قدمه الصغير يطل من الصندل الجديد الأخضر، صرخت: ابني! لكني سمعت صوته، البحة نفسها والقهقهة المتقطعة كالشهقة، واستدرت بسرعة، لم يكن هو ابني؛ كان طفلا متورد الوجه يتكلم بالإنجليزية. - ما هذه الأرض التي تحتنا يا أمي؟ - هذه مصر. - ما معنى مصر يا أمي؟ - لا أعرف، إنها بلد في شمال أفريقيا.
نقط النور في القاع البعيد الأسود تهتز وتقاوم الليل، إحدى هذه النقط مصباحي بجوار سريري، ورف كتبي وأوراقي، وأحزاني وأفراحي، والوسادة الصغيرة عليها بضع شعرات من رأسه وقطرات من عرقه، والعينان الصغيرتان السوداوان تلمع فيهما دمعة، وصوت فيه بحة يناديني، ويدان صغيرتان تتشبثان بيدي وتمسكان بها كقيد، أخلص يدي بغير عنف، برفق شديد، وأسير على أطراف أصابعي نحو الباب، ومن خلفي أسمع صوتا خافتا كبكاء طفل، البحة نفسها، والشهقة المتقطعة، واستدرت بسرعة. لم يكن ابني. إنه الطفل الإنجليزي السمين لا زال يضحك ويلعب، ضحكته تشبه ضحكة ابني، وعمره يكاد يقترب من عمره، أربع سنوات ونصف، تركته مع أبيه وأخته من أجل ماذا؟ رغبة آثمة في المعرفة؟ حنين جارف منذ الطفولة للعصيان ورفض الأوامر؟ أم أنه السفر والترحال والانجذاب نحو العوالم الأخرى؟
ثم ارتفع الصوت من خلال الميكروفون يعلن عن الهبوط في مطار طهران، ولامست العجلات الأرض بخفة فائقة، ثم توقفت الطائرة تماما وظلت الأبواب مغلقة، وخيل إلي أنه بمجرد انفتاح الأبواب سيندفع رجال البوليس والسافاك إلى داخل الطائرة يبحثون في وجوه الركاب عن وجهي.
وانفتحت الأبواب ولم يدخل أحد، وخرج الناس يسيرون إلى مدخل المطار في طوابير، وأمام ضابط الجوازات وقفت في مكاني من الصف الطويل، وإلى جواري طبيب هندي تعرفت عليه، ولم يكن حصل على تأشيرة للدخول أيضا، وأخذنا أحد موظفي المطار إلى غرفة جانبية قدمنا أوراق المؤتمر ، وأسماءنا في كشف ضمن الأعضاء، وأشرنا إلى العبارة التي تقول: إن تأشيرة الدخول يمكن أن تعطى لأعضاء المؤتمر الذين لم يجدوا الوقت للحصول على التأشيرة في بلادهم.
كانت الغرفة مزدحمة بالناس، وشاب إيراني نحيل يجلس من وراء مكتب صغير، وجهه شاحب مرهق، وقطرات عرق فوق جبهته، وفوق مكتبه كوم من الأوراق وجوازات السفر، رفع رأسه وألقى على الطبيب الهندي نظرة سريعة، ثم نظر إلى الصورة في جواز سفره، ورفع يده بالمطرقة على إحدى الصفحات الخالية وطبع تأشيرة الدخول. وبالسرعة نفسها نظر إلى صورتي في جواز سفري، وظلت عيناي ثابتتين وهو ينظر في وجهي، ورفع يده عاليا بالمطرقة وطبع تأشيرة الدخول فوق إحدى الصفحات الخالية في جواز سفري.
ثم وجدت نفسي في قلب طهران، وفي شارع بهلوي أسير، الشارع نفسه الذي كنت أسير فيه أربع مرات في اليوم، لولا الفاصل الحديدي الذي ينتصف الشارع والمباني الجديدة التي احتلت المساحات الخالية لظننت أن الزمن لم يمر منذ كنت هنا من عامين؛ فالوجوه تكاد تكون هي الوجوه، الرجال بملامحهم البارزة المدببة فيها قوة الجبل وجرأته، والنساء بعيونهم السوداء الكبيرة وجونلاتهم القصيرة تكشف عن أفخاذ شرقية سمينة، والسينما هي السينما تعرض فيلم راعي البقر، وبائع الفسدق واللبان بأسنانه الذهبية وشاربه الأسود جالس فوق الرصيف، والصبي الشاحب الحزين بميزانه الصغير، والشحاذة العجوز نفسها لا تزال في مكانها متكورة حول نفسها بجوار الحائط ويدها الفارغة ممدودة للأمام.
Página desconocida