ونطوف بالبيت الصغير نستمع إلى شرح المترجمة الروسية، كل ركن في البيت له قصة ولكل قطعة أثاث دور في حياة أسرة لينين. وأنظر من خلال نافذة حجرته الزجاجية فأرى فروع شجرة صغيرة تتدلى على الحائط، أتخيله واقفا وراء النافذة نفسها يطل على الشجرة نفسها وذهنه شارد، مشغول بالأفكار التي دخلت رءوس العمال والفلاحين في روسيا وأشعلت أول ثورة اشتراكية. ومات لينين سنة 1924 لكنه ظل حيا في كل مكان بالاتحاد السوفييتي؛ تماثيله في كل قرية وكل مدينة، وكلماته محفورة على الحجر، وكتبه وأقواله تكاد تكون محفوظة، حتى جسده الميت لم يدفن ولم يتحول إلى تراب ككل أجسام البشر، وإنما ظل محفوظا في مقبرته في الميدان الأحمر بموسكو.
وهذا هو شارع مكسيم جوركي. وهذا هو متحف جوركي، ودخلنا بيتا صغيرا من الخشب في أحد شوارع أوليانوس، وارتدينا الأحذية القماش، وهبطنا بضع درجات مظلمة فأصبحنا في البدروم، وهو المخبز الذي عمل فيه جوركي فترة من حياته، ورأينا الفرن والمنضدة الخشبية التي يوضع عليها الخبز، وتحت الطاولة على الأرض الإسمنت كان ينام جوركي ويثني جسمه الطويل تحتها، وفي الحائط علقت لمبة جاز كان يقرأ على ضوئها. الكتب كان يحصل عليها من صاحب المخبز، وصعدنا إلى صالة واسعة على جدرانها لوحات كثيرة تصور حياة جوركي. كان حمالا. وهذه صورته وهو يحمل الأثقال، واشتغل عند امرأة في حانة، وحرضته المرأة على السرقة فضربها وخرج، وهذه صورته وهو يبيع الخبز. وهذا تمثال لخنازير تأكل الخبز وجوركي لا يأكله. رفضته جامعة كازان لفقره، وانضم إلى خلية واحدة مع لينين، وتتوالى اللوحات والتماثيل تحكي قصة كفاحه.
ثم ركبنا السفينة الكبيرة، سبحت بنا على نهر الفولجا واللحن السوفييتي «بحار الفولجا» تدندن به «زوبا» عضو الاتحاد النسائي السوفييتي، يشبه في بعض مقاطعه لحن النيل نجاشي «هيلا هوب هيلا»، واشتركنا كلنا في الغناء، وكان الجو قد بدأ يصفو، وسطعت الشمس وخلعت النساء المعاطف وملابس الشتاء وارتدين ملابس الصيف والربيع.
وفي مدينة كازان استقبلنا بالموسيقى والزهور وموائد الطعام والشراب، وقيل لنا إنه لم يحدث من قبل أن زار الاتحاد السوفييتي كل هذه الوفود من النساء. كان الاستقبال حارا والاحتفاء بنا أكثر من تصوراتنا. وكما يحدث في كل بلد طفنا بالمتحف والمسارح، ووضعنا الزهور على النصب التذكاري للجندي المجهول، وزرعنا شجرة في طريق الصداقة، ووقفنا أمام تمثال «عبد الله تقي» شاعر التتار، وتمثال «موسى جليل» بطل التتار المقيد بالحبال، وبرج سيوميبكي المائل. وفي متحف كازان رأينا العربة الحنطور التي ركبتها كاترين الثانية، والقرآن باللغة العربية داخل برواز زجاج، وملابس التتار الشعبية مطرزة بشكل يشبه ملابس نساء فلسطين، وطاقية الرجال كطواقي العرب، واللغة التتارية القديمة تشبه في حروفها اللغة العربية، وأسماء التتار تشبه أسماء العرب، ودينهم الإسلام أيضا.
وفي قسم من المتحف رأينا أنواع سمك الفولجا، سمك «بيروجا» ويستخرج منه الكافيار الأحمر، وسمك أميوترا ويستخرج منه الكافيار الأسود، وقسم لصناعات التتار والترول، وأجهزتهم الحديثة وخاصة في مجال الطب: جهاز الكلى الصناعية وأجهزة جراحة الرئة الحديثة.
وجامعة كازان لها تاريخ طويل، درس بها تولستوي، وفي كلية الحقوق درس لينين، ودخلت النساء إلى القاعة التي كان يدرس بها لينين، وتنافسن على الجلوس على المقعد الخشبي الذي كان يجلس عليه في مؤخرة الفصل، وأمام الجامعة تمثال لينين وعمره سبعة عشر عاما.
وقضينا اليوم الأخير في كازان مع الأطفال، والأطفال في الاتحاد السوفييتي طبقة مميزة تحظى بالاهتمام، زرنا مركزا لرعاية صحة الطفل، وقالت لنا طبيبة المركز بعد أن طفنا بأنحاء المكان: وفيات الأطفال هنا 2 في الألف وكانت قبل الثورة 342 في الألف، والنساء هنا يلدن بالمستشفيات، وقبل الثورة كان 4 فقط من النساء يلدن بالمستشفيات.
وزرنا دار الحضانة، واستقبلنا الأطفال بالزهور والأناشيد، وفي معسكر الأشبال استقبلنا بالعيش والملح، وأكلنا العيش والملح كرمز للصداقة والحب، وقبل أن نودع الأطفال وقفوا في حديقة معسكرهم الواسعة وأنشدوا أنشودة الأطفال السعداء، ومسحت بعض النساء دموعهن وهن يودعن الأطفال ويطبعن على خدودهم الحمراء قبلة الوداع.
حين وصلنا إلى القاعة الفسيحة في فندق «روسيا» في موسكو التقيت بعدد من الأدباء العرب والمصريين، وكانوا في طريقهم إلى مؤتمر الكتاب في طشقند.
وفي الصباح وصلتني باقة ورد ورسالة تدعوني لحضور مؤتمر الكتاب في طشقند. انفصلت عن وفود النساء ووجدتني وحقيبتي داخل طائرة الأدباء، قطعنا المسافة بالطائرة بين موسكو وألماتا «عاصمة كازاخستان» في خمس ساعات ونصف ساعة، هبطنا إلى مطار ألماتا، ولفحت وجوهنا نسمة الصيف الحار، يشبه صيف مصر، وطالعتنا وجوه أهل كازاخستان بأنوفهم الفطساء وعيونهم المستطيلة المسحوبة إلى أعلى كعيون أهل الصين. لا يفصلهم عن الصين إلا الجبل العالي تغطي قمته الثلوج البيضاء، وتنمو على سفحه الأشجار والخضر والفواكه، يزرعون الجبل هنا، ويصنعون من الثلوج الذائبة فوق القمة أنهارا وبحيرات صناعية، ويحولون مجرى الأنهار الطبيعية في سدود عالية تصنع الكهرباء، وهؤلاء هم أهل كازاخستان الذين أرسلوا خبراءهم إلى أسوان واشتركوا مع المصريين في بناء السد العالي.
Página desconocida