الغرباء لم نرهم إلا مسلحين بالبنادق وبنادقهم ناحية صدورنا، وعقلي منذ الطفولة ربط بين البنادق والرجال الغرباء وكوني أنثى، كرهت الكلمة منذ الطفولة، وأصبحت أنوثتي عقلانية.
لا زلت أحدق في عيني «شهيب» رغم مرور عشرين عاما، رائحة البحر في أنفي والسيارات المحروقة في سفح الجبل، والتراب أحمر بلون الدم، وهو صامت ينظر بعينيه النفاذتين إلى قمة الجبل، وتذكرت الحوار: في عينيك شيء لم أجده في عيون الرجال! - ماذا؟ - هذا البريق النفاذ الحاد يشق الجبل والبحر. - الثورة؟ - ربما، ولكنها ثورة مختلفة، عندنا أيضا ثورة. - ثورتكم بيضاء وثورتنا حمراء، سال دم مليون شهيد قبل أن نحصل على الاستقلال. - عندنا شهداء ماتوا في حرب القنال ضد الإنجليز.
تذكرت «المنيسي» زميلي في كلية الطب. كان يجلس إلى جواري عام 1951 في أول سنة بالمشرحة، اختفى ذات يوم ولم أره أبدا، ولم يبق منه إلا حروف اسمه محفورة على لوحه من الرخام في مدخل الكلية ضمن أسماء الشهداء، وحروف اسمي على ورقة بخط يده في درج مكتبي. - إذا كانت ثورتنا بيضاء فأين يذهب دم المنيسي؟ - من هو المنيسي؟ - حبي الأول. كان ثائرا وكان جذابا. - الثورة تجعل الملامح جذابة. - كل من أحببت في حياتي كان ثائرا، وكل امرأة جذبتني كانت ثائرة، وكل طفلة أو طفل جذبني رأيت الثورة في العينين واضحة. وأنا أحب نفسي حين أثور، وأكره نفسي حين أستسلم. - وأنا أحب المرأة الثائرة حين تستسلم. - وأنا أحب الرجل المستسلم حين يثور. •••
هل تؤثر طبيعة الأرض على الملامح؟ في مصر الوادي السهل المنبسط يجعل الملامح هادئة والعيون وادعة شبه مستسلمة؟ وهنا في الجزائر الجبل الصعب الشاهق يجعل الملامح حادة عنيفة شبه صخرية.
في زيارتي الأولى للجزائر جذبتني الملامح الجبلية، خفق قلبي وأنا أصعد الجبل لأول مرة، ورأيت في العينين النفاذتين حريق المعارك المتفحمة في بطن الجبل، ورأيت البحر في عنفوانه، والجبل في شموخه، وأصبحت الثورة هي الحب. لكني كنت لا أزال أسيرة الوهم أن الثورة تمنح والمرأة تؤخذ.
ووقفت مترددة كالمشدودة بين قوتين متعادلتين، تجاوزت حدود الوطن لكني لا زلت حبيسة بغير جدران، وسلاسل تحوطني غير مرئية.
كان «بن بيلا» لا زال في الحكم، وعبد الناصر أيضا قبل هزيمة 1967، وكنت أمد رأسي بين الصفوف لأسمع صوت «بن بيلا» وهو يلقي خطابه في أول أيام المؤتمر، كلماته العربية تختلط بالفرنسية. يقول بدل مدرسة: «إكول»، وبدل موعد: «راندفو»، خليط عجيب من الكلمات الفرنسية المعربة ترن في أذني كلغة مستحدثة غريبة ومنفرة.
وأشار «شهيب» إلى السيارة المحترقة في سفح الجبل: هذه بقايا معركة التحرير. وقد طردنا فرنسا إلى الأبد. - ونحن أيضا طردنا الإنجليز من قبلكم! - هل نتعشى معا الليلة؟ - لا. - هل أنت متزوجة؟ - لا. - لماذا تعترضين إذن؟ - هل الزواج هو الذي يمكن أن يمنعني؟ - بالعكس الزواج يحرر المرأة. - والاستعمار يحرر بلادنا؟ - هل الزواج كالاستعمار؟ - كلاهما وجهان لعملة واحدة.
وفي الزيارة التالية للجزائر رأيت «شهيب» سائرا في الطريق، استدار ورآني، ملامحه لم تعد جذابة، هل فقد ثورته؟ صافحته وسرت في طريقي مسرعة، الشمس تقترب من المغيب.
شوارع الجزائر بعد الغروب تخلو من النساء، وتصبح غابة من الرجال، يسيرون جماعات على شاطئ البحر، أنوفهم حادة وعيونهم نفاذة ثاقبة، وأنفاسهم كزفير البحر أول الليل يصعد ويهبط.
Página desconocida