مددت رحلاتي المتعددة في بلاد العالم خلال العشرين عاما الماضية، ورغم أنني حركت عقارب الساعة إلى الوراء أو إلى الأمام حسب موقع البلد الذي أسافر إليه، إلا أنني لا زلت أذكر هذه المرة الأولى التي غيرت فيها الزمن بيدي.
أحسست رعشة خفيفة فوق أصابعي وأنا أحرك مسمار الساعة، وعيناي تتابعان العقربين وهما يتقهقران إلى الوراء ثلاث ساعات كاملة.
كنت أظن أن حركة عقربي الساعة مقدسة لا يمكن ليد أن تلمسها أو تغيرها. هذان العقربان كانا يحكمان يقظتي ومنامي، مواعيد عملي ولهوي، يحكمان أيام عمري، يحكمان علي «بالشباب أو بالشيخوخة». هذان العقربان لم أكن أستطيع أن أقدمهما أو أؤخرهما دقيقة واحدة، ولا يستطيع أحد غيري حتى الصائغ الذي صاغهما ودقهما بمطرقته وصنع منهما عقربين. هذان العقربان المقدسان استطعت الآن أن أحركهما إلى الوراء ثلاث دورات كاملة.
وتحولت الدهشة إلى فرحة، كأنما اختلست من الآلهة ثلاث ساعات وأضفتها إلى عمري، أو كأنما درت حول الكرة الأرضية ثلاث دورات وأنا في مكاني.
وحين سرت على أرض الجزائر والشمس لا تزال في السماء قلت لنفسي: الناس في مصر غربت عنهم الشمس وأنا لا تزال الشمس في عيني! أهي الشمس نفسها أم شمس أخرى؟
ملمس الشمس فوق وجهي في أول زيارة لا يزال في ذاكرتي، واللهجة الجزائرية بدت لي كاللغة الجديدة، والملامح الجزائرية حادة قوية شامخة كالجبل، والسلام الجمهوري حين سمعته يعزف لأول مرة أدركت أنني فوق أرض الجزائر، أرض المليون شهيد، حرب التحرير والفدائيين، سجون التعذيب وجميلة بوحريد، الجنود الفرنسيون وفظائع الاستعمار، «فرانزفانون» وكتابه «المعذبون فوق الأرض»، «بن بيلا» بوجهه المستدير وقامته الطويلة تقارب قامة عبد الناصر.
افتتح «بن بيلا» المؤتمر الطبي. قاعة ابن خلدون مليئة بالأطباء العرب، والحديث بينهم يدور حول الثورة الجزائرية والعمل الفدائي والتحرر من الاستعمار، لكن سرعان ما انقسموا إلى لجان متخصصة وبدءوا الحديث عن أمراض القلب والمعدة والطحال.
وفي المساء كانت حفلات الموسيقى والغناء والرقص الجزائري، أنغام البيانو والكمان تمتزج بدقات الدف والعود، كلمات فرنسية تمتزج بكلمات عربية، عيون فيها ثورة وغضب، وعيون فيها استكانة وشبع، نساء رشيقات نصف عاريات، ونساء محجبات تحت خمار سميك وعباءة واسعة بيضاء.
في حي القصبة العربي طغت دقات الدف والعود على أنغام البيانو والكمان، وطغت الكلمات العربية على الفرنسية، وبدأت الأزقة الرطبة والبيوت القديمة المتآكلة وعيون النساء من تحت الحجاب الأبيض ووجوه الأطفال الذابلة.
تقدمت نحوي امرأة تخفي وجهها وجسمها تحت عباءة بيضاء واسعة، على ذراعها طفل، وذراعها الثانية ممدودة نحوي، باسطة كفها تشحذ: أعطني قرشا. قالتها بالفرنسية. لأول مرة في حياتي أسمع شخصا يشحذ بلغة أجنبية. كنت أظن أن الشحاذين لا يعرفون إلا العربية.
Página desconocida