كنت لا أزال واقفة على الشاطئ، تحت بوابة بومباي الضخمة، رائحة البحر واليود تملؤني بالحنين لبحر الإسكندرية وأحلام الطفولة، خيالات في رأسي تشبه خيالات الطفولة، وصوت جدتي في أذني يحكي عن الجان والعفاريت ولكل عفريت ثمانية أذرع طويلة، و«جنية» البحر لها رأس امرأة وجسد سمكة. صوت شاندري يشبه صوت جدتي: الآلهة لا يحبون الأرامل.
وقلت بصوت طفولي: لعلهم يفضلون العذراوات.
وصاح بدهشة: هذا صحيح! كيف عرفت هذا؟
وقلت: لأنني طبيبة نفسية، وأفهم نفسية الآلهة.
وقال شاندري: لكن الآلهة عندنا يختلفون، وليس شيفا مثل فيشنو أو «برهما». قلت: قد يختلفون سياسيا، ربما يفضل «شيفا» الرأسمالية، وفيشنو ربما له ميول اشتراكية، لكني أعتقد أنهم يتفقون جميعا في نظرتهم للمرأة.
وظل شاندري يحملق في وجهي بعينيه السوداوين، أصبحت عيناه ضيقتين كعيني جدتي وبلا رموش، صوته أيضا هو صوتها، وأطفال بومباي ينظرون إلي بعيون سوداء واسعة يملؤها الجوع والدهشة معا كعيون الأطفال في قريتي البعيدة على شط النيل، وعيوني في الصورة وأنا طفلة أقف في الصف الأول إلى جوار زميلاتي في المدرسة الابتدائية.
أصبح شاندري هو الذي يرقص الآن، على جبهته الدائرة الحمراء المقدسة، رأسه يشبه رأس الإله «جانيش» بدون زلومة الفيل، ذراعاه يتحركان في الهواء وقد تضاعف عددها وأصبح له أربعة أذرع طويلة كالمخالب، وصوته كصوت الإله الراقص «شيفا»: نحن أفضل من غيرنا وأكثر تقدما، فنحن لا نعترض على اختلاط النساء والرجال في المقابر بعد الموت. أما الأرملة! هل هناك أحد يحب الأرامل؟! وقد نشفق على الأرملة الضعيفة المستكينة المطيعة لأوامرنا، لكن هذه الأنديرا غاندي! إنها تمتلك قوة تنافس بها الآلهة، واستطاعت أن تتخلص من خصوم أبيها، وكان نهرو يسميهم «الثعابين»، وعجز عن مقاومتهم، واستطاعت أن تنجح فيما فشل فيه «نهرو»، لكن نجاحها معناه سقوط الآلهة، وخاصة الإله «براهما» وجميع البراهميين؛ أي رجال الدين والفكر عندنا، وهم الطبقة العليا. فنحن لا نفصل بين أملاك الإله «براهما» وأملاك البراهميين.
كان أحد الرجال قد اقترب من شاندري وهو يرقص، جلباب ممزق تفوح منه رائحة قمامة، ووجه شاحب تشتعل فيه عينان سوداوان بوهج الجوع، وسقط «ظله» وهو يرقص على سترة شاندري السوداء من الصوف الإنجليزي الثمين، توقف شاندري عن الرقص فجأة، ونفض عن سترته «الظل» كأنه ينفض شيئا له قوام مادي، كالحشرة تماما ينفضها عن ملابسه.
وقلت بدهشة: إنه لم يلمسك.
وقال: ظله لمسني وهذا يكفي. كان أبي يستحم إذا سقط عليه ظل واحد من هؤلاء المنبوذين.
Página desconocida