وكما طمس الأوروبيون والمستعمرون الحضارات القديمة التي ازدهرت في الشرق مثل الحضارة المصرية القديمة، حضارة الهند، حضارة العرب وغيرهم، فقد طمسوا أيضا أدبهم وثقافتهم الحاضرة.
وتدخل «الجيتا» بعمق في تحليل النفس البشرية وفي الأمور الفلسفية، وتنكر وجود قوى خارج الإنسان مجهولة له. تقول «الجيتا»: إن هذا الشيء الذي داخلنا هو الذي يرصد حركتنا، هو النفس الحقيقية، وهي ساكنة ثابتة؛ حيث لا يمكن لها مراقبة النفس الأخرى إلا من موقع ثابت ساكن. هذه النفس الساكنة الثابتة هي النفس الخالدة في رأي «الجيتا»؛ أي هي «الله»، بمعنى آخر: أن «الله» داخل الإنسان وليس خارجه. وهذا المعنى هو أحد المعاني الحديثة التي عبر عنها بعض الفلاسفة المحدثين من أمثال: إريك فروم ورواد ما سمي بالفلسفات الإنسانية. تقول «الجيتا»: إن أي إنسان يمكن أن يكون إلها إذا ما ابتعد عن نفسه غير الحقيقية واقترب من نفسه الحقيقية الخالدة. إن النفس غير الحقيقية هي النفس النهمة إلى الملذات العادية الدنيوية الزائلة. أما النفس الحقيقية فهي التي تنتصر على تلك الرغبات وتعلو عليها وتصل إلى اكتشاف جوهر السعادة الحقيقية التي لا تزول. وتدعو «الجيتا» الإنسان إلى أن يفكر طويلا وأن يحاول أن يصل إلى نفسه الحقيقية عن طريق الزهد والعزلة والانفصال عن الحياة والتفكير العميق الطويل. لكنها تقول للإنسان في بعض أجزاء منها إنه لا بد أن يعمل في الحياة بغير كلل أو ملل. والسؤال هنا: أليس من حق الذي يعمل أن ينال عن عمله أجرا يساعده على الاستمتاع بما في الحياة من ملذات؟ كيف إذن تدعوه «الجيتا» إلى العمل ثم تدعوه إلى الزهد والانعزال عن الدنيا وما فيها؟! هذا تناقض واضح تحاول «الجيتا» أن تفسره بأن تقول: إن الوصول إلى النفس الخالدة الكلية أمر بالغ الصعوبة، ولا يصل إليه إلا القلة من صفوة الناس.
وهناك عبارة في «الجيتا» تقول فيها للناس ما معناه أن اعملوا وانظروا إلى العمل ذاته ولا تطلعوا إلى ما سيعود عليكم من هذا العمل. وبرغم هذه الفلسفة العميقة الإنسانية القائمة على الفعل والتفكير والتأمل إلا أنني لا أتفق مع هذا الرأي الذي يدعو الناس إلى العمل دون أن يتطلعوا إلى نتائج العمل؛ لأن هذا الاتجاه يسهل لغيرهم أن يستغلهم ويربح من وراء جهودهم وعملهم. وقد وجدت في «الجيتا» رغم ارتفاع قيمتها الفلسفية والفكرية بعض التناقضات التي لا يخلو منها أي دين من الأديان. لكنها في رأيي من أكثر الكتب الدينية اعتمادا على الفعل والتفكير المنطقي الفلسفي وليس على المعجزات والخرافات والأحكام القاطعة التي لا تقبل المناقشة. إن الإنسان هو المعجزة الوحيدة في «الجيتا»، وهي تحثه على أن يكتشف نفسه وقوته العظيمة الداخلية ولا يكون ضحية للظروف الخارجية. إنها تقول: إن الإنسان سيد نفسه وسيد الظروف الخارجية أيضا، ويجب ألا يرضخ لها وأن يغيرها لصالح الناس جميعا.
كنت أتساءل دائما: لماذا لا يخاف الإنسان الهندي الموت كما نخافه نحن؟ ووجدت الإجابة على هذا التساؤل في «الجيتا» إنها تقول إن الموت ليس موتا، وإنما هو انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر أفضل من الجسد الأول. كما نفرح نحن بانتهاء الطفولة وانتقالنا إلى مرحلة النضوج، يفرح الهندي بالموت ويرحب به كانتقال إلى حالة أفضل وأكثر نضوجا.
تقول «الجيتا» أيضا: إن التغير هو قانون الحياة الوحيد الذي لا يتغير، وإن الخلود هو الحالة التي يصل إليها عقل الإنسان حين يقبل أن كل لحظة وكل تجربة وكل عقل وكل جسم وكل شيء في الحياة ليس خالدا. كل شيء في العالم يتغير: الحر والبرد، فلماذا يضايقني الحر أو البرد؟ كل موقف يتغير: الحزن أو الفرح، النجاح أو الفشل، فلماذا يضايقني الحزن أو يسعدني الفرح؟ الهندي الحكيم في «الجيتا» هو الذي لا يفرح ولا يحزن ولا يتألم من حر أو برد أو جوع أو عطش. يقول اللورد كريشنا في إحدى فقرات «الجيتا»: «هذا الإنسان الصلب الذي أصبح لديه الفرح والحزن سواء بسواء. إنه أهل لأن يفهم خلود الروح.»
من هذه الفلسفة ظهر في الهند هذا الاتجاه إلى الانتصار على الألم وتحمل كافة أنواع التعذيب، كالنوم فوق المسامير، ورفض الملذات ومنها الطعام والجنس، واستعذاب الحرمان والآلام. وقد أثرت هذه الفلسفة الهندية القديمة في غاندي وأصحابه وفي كثير من زعماء الهند، بل في كثير من أفراد الشعب الهندي العادي. لا أظن أن أحدا في العالم يستطيع أن يتحمل الفقر والجوع كما يتحمله الإنسان الهندي. هذه الفلسفة لها ميزات ولها عيوب. من ميزاتها أنها تقوي الناحية النفسية والروحية في الإنسان. لكنها من ناحية أخرى تضعف رغبته في محاربة أسباب الفقر والجوع، بل تجعله فريسة سهلة للمستغلين والمستعمرين.
وقد حاول الإنجليز طوال استعمارهم للهند أن يزيدوا من فلسفة الزهد هذه كما فعلوا بالأديان في المستعمرات الأخرى.
في بعض فصول «الجيتا» شرح علمي طويل للنفس الإنسانية ومراحل العمر المختلفة. تقول «الجيتا»: إن طفولتنا ليست إلا مرحلة تموت وتولد بعدها مرحلة الشباب، التي تموت بدورها وتولد الشيخوخة، ولكننا نذكر الطفولة والشباب والتجارب التي مرت في حياتنا وانتهت.
هذه الذاكرة التي ترصد حركتنا وتجاربنا التي تبدأ وتنتهي لا بد أن تكون هي ساكنة ثابتة. لا يمكن لنا أن نرصد حركة الشيء ونحن نتحرك داخله. لا نعرف حركة القطار ونحن داخله. وكذلك النفس الإنسانية، لكل إنسان منا نفسان: نفس تتحرك وتعيش التجارب ، ونفس أخرى ساكنة لا تتحرك ترقب النفس الأخرى. تقول «الجيتا»: إن النفس الساكنة الثابتة هي النفس الخالدة غير المتغيرة، وهي الحقيقية، وهي الواعية. أما النفس المتحركة فهي غير حقيقية، وهي زائلة، وهي متغيرة، وهي غير واعية بما يحدث لها؛ لأنها عاجزة عن الرصد والمراقبة؛ وبالتالي عاجزة عن الوعي وإدراك حقيقة الأمور.
تحث «الجيتا» الإنسان على أن يكافح من أجل أن يصل إلى نفسه الحقيقية غير المتغيرة، وبهذا ينتصر على الموت ويظل حيا وإن مات جسده؛ فالجسد ليس إلا جزءا من النفس غير الحقيقية الزائلة.
Página desconocida