الرفاغة، كانت يومئذ عقبة كؤودًا في طريقي، ولولاها ما كان أحوج مسلمًا يحبّ المسلمين ويصبو إلى بلادهم أَن يشدّ رحاله إلى بغداد مدينة السلام، ودمشق عاصمة الشام، كيلا يحرم من مشاهدة مدينتين فخيمتين كانتا أكبر عواصم الإسلام وأعظمها حضارة، وناهيك بهما في عهدي الدولة الأموية والعباسية، وعلى الخصوص في عهد المأمون عهد الحضارة الشرقية والنور، يوم كانت بغداد هذه محطّ رحال العرب ومنبعث أشعّة الحكمة والأدب. على أني ما لبثت قليلًا حتّى قيّض الله لي نفرًا من أصدقائي الكرام وعلية القوم في بلاد الشام فطلبوا إليّ أن أزور بلادهم، وقد كنت لا أزال أخشى من حصول ما عساه يعترض المسافر ممّا ربّما مسّ بالصحّة أو أساء إلى الكرامة، فكاشفت هؤلاء الصحب بما كان يجيش به صدري من ذلك وغيره لعلّي كنت أبلغ من لدنهم عذرا
أو أستطيع إلى السفر سبيلا، فما زالوا يجهدون أنفسهم في إقناعي بضدّ ما كنت أظن حتّى لقد حبّبوا إليّ الرحلة وأوقعوها من نفسي بحيث صارت عزيمتي إليها أشدّ منها إلى سواها خصوصًا بعد ما أنّهم تكفّلوا براحتي فيما كنت أتوقّع التعب من ناحيته أكثر من المعتاد في أسفاري، وما كان ليخامرني ريب في صدقهم، إذ كنت أقرأ على صفحات وجوههم البيضاء آية الإخلاص والوفاء، وحينئذٍ طويت العزم على اِرتياد بلاد سورية وفلسطين والعراق فرحًا مسرورًا بتحقيق رجائي القديم من زيارة بلادٍ طالما تاقت نفسي أن تراها وتشاهد فيها أهلها على الأزياء الفطريّة والعوائد الشرقيّة الّتي لا تزال إلى اليّوم حافظة ما كانت عليه منذ العصور المتقدّمة بفضل ما يعرف في أهلها من الغيرة عليها وحرصهم على أن لا تختلط بتقاليد الغربيّين وعوائدهم. وقد كنت كلّما سمعت النّاس يمتدحون طقس هذه البلاد وما وهبها الله من جمال المنظر ونضارة البقعة وبهاء الطبيعة، فضلًا عن اِتّساع مساحتها وخصوبة تربتها وعذوبة مياهها وغضارة رياضها يزداد شوقي نحوها ويتأكّد
1 / 24