Viaje en el pensamiento de Zaki Najib Mahmud
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Géneros
كان يقرأ لأفلاطون فكرته عن العلاقة الوثيقة بين الخير والجمال، وسأل نفسه عن معنى هذه العلاقة «... وانتهيت إلى تحليل أرضاني تترتب عليه نتيجة هامة، هي التي أردت أن أسوقها إلى سادتي الحكام في هذا البلد؛ وهي أن كل ما في هذا البلد المسكين قبيح ذميم بفعل هؤلاء السادة أنفسهم، وعجبت أن يعنى السادة بالجمال في مساكنهم الخاصة، وفي ملابسهم، ومآكلهم، ومشاربهم، وشتى جوانب حياتهم الشخصية، ثم لا تمتد هذه العناية قليلا، لتشمل شئون الشعب الذي ألقى إلى أيديهم بزمامه ...»
25
وهو بعد أن يعرض فكرة أفلاطون عن الجمال التي تذهب إلى أن الجمال تناسب بين أجزاء الشيء، فإذا ما تحققت هذه النسب الصحيحة بين الأجزاء كان الشيء جميلا وتحقق معه الخير أيضا؛ ومن ثم كان اضطراب النسب شرا وقبحا في آن معا، أقول إنه بعد أن يعرض هذه الفكرة يعود إلى السادة من أصحاب الحكم والسلطان قائلا: «... أيها السادة، لقد اختل في أيديكم الميزان، فاضطربت النسبة الصحيحة بين الأشياء والأوضاع، فامتلأت البلاد بالقبح الذميم؛ لأنها امتلأت بصنوف الشر، وقد أوضحنا لكم أن الشر هو القبح وأن الخير هو الجمال ... إنكم عشاق للجمال في كثير من صوره تعشقونه في جميلات النساء وفي الطعام الجيد ... إلخ، وبقي يا سادة شيء واحد لو عشقتم فيه الجمال لصلح الأمر كله؛ ذلك هو العدل! فالظلم أيها السادة يملأ حولكم أركان البلاد، الظلم بمعناه الذميم وهو اضطراب النسبة بين الأشياء والأحياء؛ وبالتالي يملأ القبح جنبات هذا الوادي المبارك الذي أراد له الله أن يكون جميلا. أنه لا تناسب يا سادتي بين المناصب وشاغليها، فصغير عندكم يملأ منصبا كبيرا، وكبير يشغل منصبا صغيرا، ولا تناسب بين المرتبات والعاملين، فعامل منتج ضئيل الكسب، وخامل لا ينتج عظيم الكسب، يستمتع بما لم يرد له الله، ولا طبائع الأشياء أن يستمتع به من طيبات ... العدل، العدل، يا سادتي الحكام؛ فالعدل خير؛ ولذلك فهو جميل، وأنتم من عشاق الجمال ...»
26 •••
أردنا في هذا المقال أن نبين أولا خصائص المفكر التنويري، كما حددها كانط وغيره، من فلاسفة الغرب ، وهي خصائص تنطبق على كل مفكر تنويري حقيق بهذا الاسم في الشرق أو الغرب على السواء، ثم أن نتبين ثانيا أنها تصدق على مفكرنا الكبير، بحيث لا نجاوز الصواب لو قلنا إنه يتربع على قمة المفكرين التنويريين.
لكن ينبغي علينا أن ننتبه جيدا إلى الفارق الهام للدور الذي قام به المفكرون التنويريون في أوروبا، والدور الذي لعبه زكي نجيب محمود في حياتنا الثقافية؛ ففي عصر التنوير الأوروبي اندفع المفكرون إلى الاعتزاز «بالعقل» وإهمال «الوجدان»؛ مما أدى إلى ظهور حركة مضادة عنيفة للتنوير، ترفض الإنسان الذي لا يظهر منه إلا عقله، وتطالب بالطبيعة والخيال والوجدان والشعور، تمثلت أولا في حركة العاصفة والاندفاع، التي مهدت بعد ذلك للحركة الرومانسية، ثم جاء «هيجل» الذي اعتز «بالعقل» لكنه سلك فيه خيطا رومانسيا واضحا، فكان عقلا جدليا مرنا لا عقلا أرسطيا جافا.
لقد استطاع زكي نجيب محمود أن يتجنب ببراعة هذا الخطأ، الذي وقع فيه المفكرون الأوروبيون في عصر التنوير؛ فهو إذا كان عقلانيا متحمسا للعقل على نحو ظاهر ؛ فذلك لأن هذا الجانب ناقص في ثقافتنا، لكن ذلك لا يعني أنه أهمل ذلك الجانب الآخر، أعني جانب الخيال والوجدان، يقول: «من يقرأ لي فيراني متلفعا بمنطق العقل رائحا وغاديا، قد لا يعلم أن لي خيالا يشتعل لأتفه المؤثرات اشتعالا، يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه من قوى النفس الأخرى ...»
27
ومن هنا هو يجعل شعاره: «... فلنعط ما للعقل للعقل، وما للشعور للشعور ...»
28
Página desconocida