melodie ، واللحن هو السطح البارز من مجموعة الأنغام المتوافقة التي تكون القطعة الموسيقية بأكملها، ولكن الواقع أن في موسيقى ڤاجنر ألحانا عديدة واضحة: وذلك ظاهر في افتتاحية «تانهويزر» وفي أجزاء عديدة من «الهولندي الطائر» و«لوهنجرين» و«أساطين الطرب». ولعل مرجع تلك الفكرة الباطلة هو أن اللحن عند ڤاجنر غارق في نسيج كثيف من الأنغام المصاحبة الغنية المتوافقة، حتى ليحدث في كثير من الأحيان أن يمر اللحن على الأذن غير الخبيرة دون أن تدركه. ولا يفوتنا أن الهدف الأول عند ڤاجنر كان التأثير الدرامي الكامل، وبعد هذا كان يضحي كثيرا باللحن من أجل ضمان وحدة الدراما وتماسك أجزائها، وحتى يتجنب ذلك التفكك الذي اتصفت به الأوبرا الإيطالية ، حين اتخذت اللحن غاية ففقدت الأوبرا وحدتها وشاع فيها التحلل والاضطراب. وبالمثل قيل إن ڤاجنر قد ضحى بالغناء في دراماته، وجعله مجرد وسيلة، أو آلات ضمن آلات الفرقة الموسيقية، بحيث لم يعد في وسع الصوت الإنساني أن يقف قبالة الفرقة بأسرها كما كان في سابق عهده. ولكن هذا القول لا يصح إلا على «تريستان» وحدها. أما بقية إنتاجه الفني؛ ففيه قطع غنائية رائعة تبعث على الطرب بحق.
ومن التهم الشائعة وصف موسيقى ڤاجنر بالضجيج، والسخرية منه لإفراطه في استعمال الآلات الصاخبة، كالبوق والطبول. فكانت الصحف المعادية له تحفل برسوم تصور الآلات النحاسية والطبول المحببة إلى نفسه حزينة على وفاته؛ إذ لن تعود بعد اليوم مصدر إلهام شاعر وموسيقي كبير! وأخذ الساخرون يتصورون المصير الأليم الذي ينتظر صناع الطبول بعد موته؛ إذ لن تجدي الطبول عندئذ شيئا سوى أن تقرع من أجل الإعلان عن دراماته فحسب! والواقع أن ڤاجنر قد أدخل على الأوركسترا بالفعل آلات جديدة، ولكنه لم يكن يستخدمها بغير تمييز، بل كان يلجأ إليها عند الضرورة فحسب، ولا يفوتنا أن تلك الضجة المزعومة تقابلها مواضع كثيرة هادئة ناعمة، كمقدمة لوهنجرين التي كان اعتماده الدائم فيها على مجموعة الكمان وبقية الآلات القوسية الهادئة، وكمقدمة تريستان وبارسيفال. وفي وسعنا أن نقول إن الهدوء هو العنصر السائد في موسيقى ڤاجنر، وأنه كان يستعين بموارد الأوركسترا كلها إذا رأى ذلك ضروريا فحسب، وعندئذ لا يدوم الجزء العنيف الصاخب إلا لحظات قليلة، يعود بعدها الهدوء سائدا مرة أخرى.
وأخيرا؛ فقد رمي ڤاجنر بأنه لم يكن موسيقيا على الإطلاق، وبأنه يجهل كل قواعد الموسيقى ولا يأبه بها، وقد شبهه كاتب معاصر بنابوليون، ولكن التشبيه كان في هذه المرة للسخرية منه؛ فكما أن الأخير قد سعى إلى تشييد إمبراطورية كبرى مستخدما فرنسا وسيلة لبلوغ هدفه فحسب، كذلك أراد ڤاجنر أن يخلق عملا فنيا جامعا
Gesamtkunstwerk
يضم كل الفنون، ولا تكون الموسيقى فيه سوى وسيلة من بين وسائل عديدة أخرى. وهكذا ضحى ڤاجنر، من أجل تحقيق مطامعه، بمصالح الموسيقى مثلما ضحى نابوليون بحياة الفرنسيين لنفس السبب! وتعليل تلك الظاهرة عند الرجلين بسيط؛ هو أن ڤاجنر لم يكن موسيقيا صميما كما أن نابوليون لم يكن فرنسيا صميما! وهكذا يحكم ذلك الكاتب على ڤاجنر بأنه كان يفتقر إلى صفات الموسيقيين الحقيقية؛ ولذا لا يعجب به إلا أناس لهم شغف غامض بالفن عامة. أما الموسيقيون الحقيقيون فلا يقدرونه أدنى تقدير. ولو كان ڤاجنر قد ركز جهوده في التعبير عن أفكاره في الشعر لما قلت شهرته في الشعر عن شهرته في الموسيقى. ولكن لم اختار ڤاجنر الموسيقى ذاتها أداة للتعبير؟ الرد الوحيد - في رأي هذا الناقد - هو أن الموسيقى كانت الفن السائد في القرن التاسع عشر، ولكل عصر فن معين يعبر أكثر من غيره عن القيم السائدة فيه؛ وهكذا كانت العمارة في العصر الوسيط، والرسم في عصر النهضة، والأدب في القرن الثامن عشر، ثم الموسيقى في القرن التاسع عشر؛ ولهذا السبب وحده كان ڤاجنر موسيقيا!
والواقع أننا نعترف بصعوبة إدراج ڤاجنر ضمن طائفة معينة من طوائف الفن العديدة؛ فقد كان له من الموسيقى والشعر والتمثيل والإخراج المسرحي نصيب، ولكن عبقريته في ميدان الموسيقى فاقت عبقريته في كل الميادين، وليس مما يعاب على ڤاجنر أنه كان متشعب الملكات ما دام قد بلغ في كل فن مرتبة رفيعة. أما أن يقال إنه لم يكن موسيقيا لأنه لم يسر على قواعد تأليفية معينة، فهذا ما لا يتعين علينا أن نقبله بحال. وقد نفهم أن يصدر مثل هذا النقد عن شخص مثل نيتشه، أما في عصرنا الحالي فلم يعد لمثل هذا القول أي مجال؛ فلم يكن ڤاجنر معاديا للقواعد الموسيقية الموروثة على طول الخط، بل إن موسيقاه سارت دائما في إطار من القواعد القديمة السليمة، وكان تجديده في صلة الموسيقى بالغناء وصلتها بالشعر أعظم بكثير من تجديده في قواعد الموسيقى ذاتها. وفي وسعنا أن نؤكد أن التراث الموسيقي الذي انحدر إلينا من بيتهوفن قد ظل سليما في جملته عند ڤاجنر، وأن خروجه عن قواعد «الهارموني» وقوانين «الشكل» لم يكن على صورة ثورة أو انقلاب عنيف كما كان عند «ديبوسي» مثلا. ولا شك أن عصرنا الحالي الذي شهد أشد الانقلابات في الفن الموسيقي، وآذاننا التي أسمعها المتطرفون أنغاما لم تكن تخطر لڤاجنر على بال؛ تستطيع أن تتذوق فن ڤاجنر وتستوعبه كاملا في حدود القواعد الجمالية المقبولة للأسماع، دون أن تجد في ذلك أي عناء.
أما فكرة الفن المتكامل، فهي لا تنقص من قدر مبدعها شيئا، طالما أننا نسلم بأن أفق العبقرية يتسع لكل شيء، وبأنه ليس من المحال أن تجمع روح واحدة بين ألوان عديدة من الفن، وإنما يبدو لي هنا سؤال يتوقف تقديرنا لتلك الفكرة على إجابتنا عنه، وهو: هل يزداد الفن تأثيرا في نفوسنا إذا ازداد تحددا وعينية، أم أن قيمته الكبرى فيما يلابسه من غموض؟ لقد رأينا ڤاجنر يلح على الجمع بين الشعر والموسيقى لأن كلمات الشعر تضفي على عواطف الموسيقي العامة دقة وتحددا - ولكن أهذا التحدد هو كل ما ترامى إليه؟ يبدو أن الجواب بالنفي؛ فأقرب الفنون إلى العينية أقلها تأثيرا في النفس، وما احتلت الموسيقى مكانتها الكبرى بين الفنون إلا لعنصر الغموض والإبهام الذي يكون ماهيتها، ولو زال هذا العنصر لفقدت الموسيقى هيبتها وجلالها. وليس أدل على ذلك من أن الموسيقى تفقد قيمتها الرفيعة كلما اتخذت لها موضوعا عينيا تصفه بوضوح؛ فالموسيقى ذات الموضوع الواضح، كتلك التي تصف عاصفة أو بحرا بشكل عيني لا يقبل الشك ، في مرتبة أدنى بكثير من الموسيقى الخالصة المجردة، التي لا تبعث أمام عينيك صورا واضحة تفسد عليك لذة التذوق الجمالي الخالص.
فإذا تمت الإجابة عن هذا السؤال، فإن هناك سؤالا آخر يتفرع منه، وهو: هل تزيد قيمة العمل الفني كلما تناول جوانب مختلفة ومتعددة من النفس؟ وهل بلغ ڤاجنر حقا هدفه حين كان يؤثر على أسماع النظارة وعقولهم وأبصارهم وقلوبهم مرة واحدة؟ الذي يبدو لي هو أن تلك الكثرة العددية في النواحي التي يؤثر بها الفن في الروح، قد تضعف هذا التأثير بدلا من أن تقويه. فليس من شأن تذوقي العقلي للشعر في الدراما إلا أن يضعف من تذوقي للموسيقى الخالصة، ومهما كان الارتباط قويا بين موضوع الشعر وتعبير الموسيقى، فسأظل عاجزا عن التعمق في التيارات الخفية التي تعبر عنها الأنغام، وينصرف انتباهي إلى السطح الأقل أهمية، الذي يعبر عنه الشعر. وإذا كان لنا أن نتحدث عن التكامل في النفس، فلنعلم أن النفس وحدة لا تتجرأ، وأن تعرضها لمؤثرات عديدة في وقت واحد يضعف كل هذه المؤثرات، بينما يستطيع العمل الفني الذي يتناول جانبا واحدا من النفس أن يجتذب إليه كل الجوانب الأخرى في استغراق عميق.
ومن الخطأ الأكبر أن نظن - كما فعل ڤاجنر - أن لون العمل الفني وتأثيره يتحدد تبعا لنوع العضو الذي ينقله إلينا؛ فالموسيقى تأتي حقا عن طريق الأذن، ولكنها تؤثر في النفس كلها من حيث هي وحدة لا تتجزأ، وكذلك المنظر الفني الذي يرسمه المسرح: تنقله العين، ولكن تأثيره ينتشر في كل جوانب النفس. وإذن فلن تزداد قيمة العمل الفني إذا ازداد عدد الوسائل المادية والأعضاء الحسية التي ينتقل بها إلى نفسنا؛ وإنما الأجدر بنا أن نركز جهدنا على وسيلة واحدة من هذه الوسائل، وهي وحدها كفيلة بأن تحدث في النفس بأسرها التأثير الذي نرمي إليه، إذا بلغت من العمق الحد المرغوب.
ولكن أي الفنون نختار؟ إن الموسيقى أقواها ولا ريب. وليس لهذا الحكم أساس منطقي يستند عليه؛ وإنما يقوم على أساس وجداني بحت. ولقد أدرك ڤاجنر ذلك، بدليل أنه أولى الموسيقى من الاهتمام ما لم يوله غيرها من الفنون، وأنه عد نفسه واحدا من أولئك العمالقة الذين يسير بهم مجرى التاريخ الموسيقي، ولم يحاول أن يجعل لنفسه مكانا في تاريخ الشعر أو الأدب. وإذا كان فنه المتكامل يقوم على أساس منطقي لا نراه سليما، ففي موسيقاه الخالصة وحدها ما يبرر مكانته الرفيعة بين عباقرة الفن، وفي محاولاته الأدبية والشعرية والفلسفية تعبير عن روح مرهفة لا تترك ميدانا إلا طرقته، وهي على أية حال محاولات لو تأملناها في ذاتها لأمكننا أن نأخذ عليها المآخذ، ولكنا لو نظرنا إليها في ضوء الفن الساطع الذي كان يطغى على عبقريته، لوجدناها كلها وسائل في يده يحاول أن ينفذ بها إلى أعماق في النفس البشرية لم يقترب منها قبله إلا القليلون.
Página desconocida