في ذلك الوقت الذي بلغ فيه ڤاجنر أقصى حالات اليأس، كان هناك رسول أرسله ملك بنفسه ليسعى وراءه وينتقل من بلد إلى بلد عسى أن يجد له أثرا. وأخيرا اهتدى إليه في شتتجارت وطلب مقابلته، فظن ڤاجنر أن أحد دائنيه قد أتى ليزيده هما على هم، وحاول التهرب منه، ولكنه اضطر تحت إلحاحه إلى أن يسمح له بمقابلته كارها، وأبدى المبعوث له سروره بالاهتداء إليه، وأنبأه بأنه رسول لودفيج الثاني ملك باڤاريا الجديد، أتى ليرفع إليه رغبة ملكه في أن يظل الفنان الكبير بجواره في قصره، ليتفرغ لرسالته السامية في هدوء. ولكي يزيده اطمئنانا، قدم إليه صورة الملك وخاتمه، وطلب إليه أن يصحبه إلى عاصمة ملكه في ميونيخ. وكانت مفاجأة تدعو إلى الذهول، بل كانت نجدة من نفس النوع الذي طالما تاق إليه ڤاجنر، والتي لا تتحقق إلا في حلم خيالي يصعب تصوره؛ وهي أن يعيش الفنان إلى جوار ملك يوفر عليه كل عناء مادي وينسيه مشكلات المال ومتاعبه، ليتوفر لفنه في هدوء، ولم يملك ڤاجنر إلا أن يكتب لمنقذه كلمات يعبر فيها عن مدى تأثير المفاجأة في نفسه فيقول: «تلك الدموع التي تعبر عن أقدس العواطف أرفعها إليك قائلا إن معجزات الشعر قد أصبحت حقيقة واقعة في حياتي التعسة التي لم تذق للعطف طعما. وإن حياتي هذه، وآخر ما ألفظ به من شعر وأردده من ألحان، ستكون منذ هذه اللحظة لك يا مليكي الشاب الرءوف، فلتتحكم فيها كما لو كانت ملك يديك!»
وهكذا طويت صفحة البؤس من حياة ڤاجنر، وبدأ فصل جديد في تلك الحياة الشائقة الزاخرة بالتجارب، والمليئة بالمفاجآت. •••
كان الملك لودفيج الثاني غارقا منذ صباه في عالم الدراما الڤاجنرية. وبعد أن سمع وهو في الثالثة عشرة من عمره الكثير عن «لوهنجرين» أمر بعرضها من أجله خصيصا في ميونيخ، وفي السادسة عشرة عرف «تانهويزر» فازدادت روحه تحليقا في سماء ڤاجنر. وكانت مقالات ڤاجنر هي قراءته المفضلة على الدوام، أما أشعار دراماته فكان يحفظها عن ظهر قلب، وكان يقلد أسلوبه في الكتابة حتى في أدق تفاصيله. واطلع لودفيج بين ما اطلع عليه من مؤلفات ڤاجنر، على المقدمة التي صدر بها طبعته لأشعار «نيبلونجن»، وفيها شرح ڤاجنر آراءه المقترحة لإنشاء مسرحه المثالي؛ فهو يرى تركيز فرقة قوية من أبرع المغنين في مكان واحد، وتصميم مسرح تختفي فيه الفرقة الموسيقية ويكون غرض النظارة ليس مجرد اللهو أو الترويح عن النفس كما يهدف رواد الأوبرا؛ وإنما يستعدون لتلقي أسمى الأفكار الشعرية وتذوق أعمق الألحان الموسيقية ... وبهذه التعديلات وحدها اعتقد ڤاجنر أن المسرح الألماني الحقيقي يمكنه أن يصبح أداة فعالة للإصلاح الفني والاجتماعي. وما إن اعتلى لودفيج عرش باڤاريا حتى صمم على أن يحقق حلم ڤاجنر، ويبذل كل ما في وسعه لمعونة رائده الروحي.
وفي 5 مايو سنة 1864م تمت مقابلة الملك الشاب لأستاذه الفنان. وكم تملكت لودفيج الرهبة العميقة وهو يتلقى عبارات الشكر من ڤاجنر، ولم يملك إلا أن يقول: «سأبذل كل جهدي لأعوض عنك ما قاسيته في ماضيك، وسأخلصك إلى الأبد من متاعب الحياة اليومية، وأجلب لك الهدوء الذي كنت تواقا إليه حتى تكفل لك حرية نشر أجنحة عبقريتك الهائلة في سماء الفن الأثيرية الخالقة. لقد كنت المصدر الوحيد لمتعتي منذ صباي المبكر، وإن لم تعرف أنت ذلك؛ وكنت الصديق الذي يخاطب قلبي بلغة لا يحسنها سواك، وكنت خير مرب ومثقف لي ... سأرد لك كل هذا الفضل على قدر وسعي.»
بمثل هذه الروح قرر الملك لودفيج أن يعامل ڤاجنر، فيقدم إليه كل ما يشاء حتى يتفرغ لإنتاجه الفني. ومنذ ذلك الوقت، دأب ڤاجنر على أن يقضي ساعات طويلة مع الملك، يتحدثان فيها عن مشروعات ڤاجنر وآماله في المستقبل. ويذكر ڤاجنر أنه لم يجد من الناس من يداني لودفيج في إلمامه بمؤلفاته وإنتاجه الأدبي والفني. وأغلب الظن أن هذا الحكم كان من قبيل التملق للملوك الذين يطربهم دائما أن يسمعوا أنهم أوسع الناس علما ومعرفة. وليس معنى ذلك أن لودفيج كان جاهلا بإنتاج ڤاجنر، ولكن من الصعب أن يصدق المرء أنه كان أوسع الناس علما به.
وهكذا تصور لودفيج علاقته بڤاجنر، لا على أنها صلة راع رحيم بفنان معدم، بل على أنها صلة روحية بين تلميذ وأستاذه، ترمي إلى تحقيق هدف مشترك يساهم فيه كل من الطرفين بما يستطيع تقديمه: الأول بماله، والثاني بفنه، وقد وضع ڤاجنر لنفسه هدفا مفرطا في الطموح؛ هو بعث ألمانيا وإنهاضها عن طريق المسرح، ومثل هذه الغاية (التي كانت دون شك مستحيلة من الوجهة الواقعية؛ إذ قد يكون المسرح واحدا ضمن عوامل نهوض أمة، ولكنه قطعا ليس العامل الأساسي في نهوضها) كانت تقتضي وسائل غير عادية، وإمكانيات مادية هائلة. ولم يكن هناك من هو أقدر من لودفيج على جلب هذه الإمكانيات، فهو ملك يتصرف في أموال دولة بأسرها، وهو في الوقت ذاته معجب بفن ڤاجنر أشد الإعجاب؛ فمن المحال إذن أن يبخل عليه بشيء.
ولقد أطال كثير ممن كتبوا عن ڤاجنر الحديث عن «غيرة» الساسة المحيطين بلودفيج من تسلط ڤاجنر عليه، وعن حقدهم الأزرق على هذا الفنان الموهوب الذي أغدق عليه ملكهم عطاياه، ولكن النظرة الموضوعية إلى الأمر كفيلة بأن تضع الأمور في نصابها؛ فمن المعقول أن يعمل الحاكم على تشجيع الفن بالمال. أما أن يغدق الأموال بغير حساب على مشروعات فنية يعتقد صاحبها أنها ستنهض بأمة بأسرها، ويتجاهل ما عدا ذلك من المشروعات أو النفقات التي ينبغي على أي حاكم مسئول أن يضعها نصب عينيه؛ ففي ذلك دون شك ما يبعث على السخط ويثير غضب كل من يفكر جديا في المصلحة العامة لبلاده. ومن المؤكد أن مشروع ڤاجنر كان يستلزم نفقات باهظة، فضلا عن بذخ ڤاجنر الشخصي وحبه المفرط لجميع مظاهر الترف، وما يقال عنه من أنه ملأ البلاط الملكي بأصدقاء أو معارف له لا يؤدون أعمالا على الإطلاق. ولنضف إلى ذلك كله أن لودفيج لم يكن شخصا متمالكا قواه العقلية تماما؛ فقد انتهت حياته بالجنون. وكانت الأعراض الأولى لاعتلاله العقلي ظاهرة منذ وقت مبكر، هذا فضلا عما عرف عنه من شذوذ جنسي ثبت عليه بصفة قاطعة، وساعد على تدهور حالته النفسية بسرعة، ولم يفلح الدواء الذي ظن أنه سيفيده - وهو تطهير نفسه عن طريق فن ڤاجنر- في الحيلولة دون هذا التدهور. كل هذه العوامل كانت كفيلة بأن تدفع كل حريص على مصلحة البلاد إلى أن يجهر بصوته معلنا اعتراضه على هذا التسلط الذي استحوذ به ڤاجنر على شخص الملك، وداعيا إلى إيقاف هذا التبديد الجنوني للأموال العامة. •••
فإذا تركنا الحديث عن علاقات ڤاجنر العامة مؤقتا، وانتقلنا إلى علاقاته الخاصة، لوجدناه قد تحدى التقاليد في هذا الميدان بدوره، وقام بمغامرات جلبت عليه سخط الكثيرين، وإن كان نجاحه فيها أعظم من نجاحه مع ساسة باڤاريا وصحفييها. ولقد أحس ڤاجنر بأن وفرة المال ليست وحدها كافية لتحقيق سعادته؛ ولذلك كان أسعد الناس حين جاءته كوزيما فون بيلوف ملبية دعوته لزيارته في مقره الجديد. وكانت هذه الدعوة موجهة إليها وإلى أفراد أسرتها جميعا؛ غير أن زوجها كان مريضا، فحضرت مع طفليها بدونه.
وسرعان ما طرح ڤاجنر وكوزيما جانبا كل التقاليد والقيود الاجتماعية. ولم يكن ذلك بالأمر العسير على ڤاجنر، كما أنه لم يكن بالمثل عسيرا على كوزيما؛ فقد كانت تعلم منذ طفولتها أن أباها «ليست» قد هجر أمها ليعيش مع الأميرة الغنية «كارولين فون فنجنشتين». وقد بذلت كارولين جهودا كبيرة لإقناعها بسلامة موقفها، وبأن حبها لأبيها كان أقوى من جميع التقاليد الاجتماعية. وهكذا لم يكن من الصعب على كوزيما، حين تعرضت لنفس الظروف، أن تهتدي بسرعة إلى الحل الذي تنشده، وهو تحدي جميع تقاليد المجتمع.
وهكذا أقامت كوزيما فترة من الزمن مع ڤاجنر، وعندما أنجبت فيما بعد ابنتها إيزولدة، كان الجميع يعلمون أنها ابنة ڤاجنر، لا بيلوف. وحين حضر بيلوف ليلحق بها، لم تطل مدة إقامته؛ إذ كانت صحته تبعث على القلق، فرحل سريعا إلى برلين. ولما لم يستطع ڤاجنر أن يجد سببا يبرر به في نظر العالم استبقاءه لكوزيما، اضطر إلى فراقها مؤقتا؛ حتى يهتدي إلى وسيلة تجمع بينهما على الدوام.
Página desconocida