فترة النضوج
بعد صيف عام 1847م الهادئ، الذي قضاه ڤاجنر في تأليف دراما جديدة هي «لوهنجرين
Lohengrin »، مستمدا إياها من منبعه الجديد وهو الأساطير الألمانية القديمة، أقبل عام 1848م بأحداثه الجسام ...
ففي فبراير من ذلك العام جاءت الأنباء بفرار «لوي فيليب» وإعلان الجمهورية في فرنسا، وبدأ الشعور العام يتوتر في ألمانيا، حتى وصل تيار الثورة إلى مدينة درسدن ، تلك المدينة الهادئة الخاملة في ساكس. وكان اتجاه ڤاجنر السياسي واضحا في ذلك الحين؛ إذ كان ميالا إلى جانب الأحرار والثائرين على التقاليد الرجعية، وكان يدعو بحماسة إلى الإصلاح الاجتماعي، ويطالب أمراء ألمانيا بمراعاة مصالح شعوبهم والانصراف عن مشاغلهم التافهة. واتخذ نشاطه مظهرا عمليا منذ البداية؛ فكان يرسل المقالات الثورية إلى الصحف معبرا فيها عن رأيه في وسائل الإصلاح، ويخطب بحماسة في المنتديات السياسية، حتى تعرض لغضب الملك حين نقده في إحدى مقالاته نقدا عنيفا.
ولم يمض وقت طويل حتى تعرف ڤاجنر إلى ميشيل باكونين
Michel Bakunine
الثائر الروسي المشهور الذي مضى في التحرر إلى أبعد مراحله تطرفا، حتى أصبحت الفوضوية له مذهبا، والتخريب العام غاية قصوى. كان باكونين في تلك الأثناء مطاردا، هاربا من سلطة الحكومة، غير أنه تقدم إلى ڤاجنر بجرأة بعد حفلة عزفت فيها السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، وعبر الثائر للموسيقي المتحرر عن تقديسه لتلك الموسيقى التي يجب أن تظل خالدة وسط ذلك الدمار والحطام العالمي الذي يوشك أن يأكل الأخضر واليابس. ومنذ ذلك الحين توطدت الصداقة بين الفنان وبين الثائر الذي كفر بكل ما كان مقدسا، إلا الموسيقى ... وكثيرا ما كان ڤاجنر يدعوه لقضاء السهرة في منزله، فيشرح له باكونين أسس فكرة الفوضوية، التي أثارت خاطر ڤاجنر ودفعته إلى التفكير العميق، وإن رآها بعيدة عن التحقيق، ولكن أعجب ڤاجنر بتلك الشخصية الشاذة الفريدة «التي جمعت بين البغض القاتل لكل مدنية، وبين أنقى مظاهر المثالية الخالصة»؛ غير أنه لم يتمكن من إقناعه بآماله في نهضة فنية شاملة؛ إذ كان باكونين يضع نصب عينيه الفوضى والدمار ولا شيء سواهما، فلم يكن في وسعه أن يفهم كيف تقوم تلك النهضة مرتكزة على الأوضاع الحالية التي رآها فاسدة لا تستحق إلا الهدم والتدمير.
وفي 3 مايو 1849م اندلعت نيران الثورة في درسدن، وقام سكان المدينة الهادئة يحملون السلاح في وجه الحكومة، وأصبحت شوارعها مسرحا لكل أنواع الفوضى والدمار. وشهد ڤاجنر تلك الروح الجديدة فطرب لها كل الطرب، وسايرها بحماسة، ومشى في تيار الثورة بقدر ما وسعه ذلك، وإن لم يكن عنيفا هداما في ميوله. وأخذ يرقب بشغف بالغ مناظر القتال في الشوارع، ويتملكه الابتهاج الساذج وهو يستمع إلى قصص الشجاعة في تلك الحرب المحلية الصغيرة.
غير أن الثورة لم يقدر لها أن تعمر طويلا، فلم يمض وقت قصير حتى قضت القوات النظامية على أحلام الثائرين وأسقطت حكومتهم المؤقتة، وقبض على باكونين بعد أن نصب له فخ بارع، نجا منه ڤاجنر بأعجوبة. وتبين لڤاجنر أن الإقامة في درسدن - وخاصة في منصب قائد الفرقة الموسيقية الملكية بها - لن تطيب له يوما واحدا بعد ذلك؛ نتيجة لما عرف من أمر مشاطرته الثوار مشاعرهم، ومعاونته لهم بقدر استطاعته، فالتجأ إلى فيمار، وأقام عند صديقه «ليست»، وهناك تأكد من أن عودته إلى درسدن في أعقابها خطر جسيم عليه؛ إذ صدر أمر بالقبض عليه. وهنا أظهر «ليست» عطفا كريما عليه، وأصبح شغله الشاغل هو التفكير في وسيلة لإبعاد ڤاجنر من خطر الاعتقال، لا سيما وأن بقاءه في فيمار ذاتها قد أصبح أمرا غير مأمون. وهكذا استقر عزم ڤاجنر نهائيا على مغادرة ألمانيا كلها، والرحيل عن طريق باڤاريا إلى سويسرا، ومنها إلى باريس؛ معقل الحرية والثورة كما خيل إليه في بادئ الأمر.
ولم يكن هدف ڤاجنر من باريس في هذه المرة هو البحث عن فرص وآفاق جديدة في عالم الموسيقى، بل كان لاجئا سياسيا فحسب. ولكنه لم يكد يقضي بها فترة قصيرة حتى علم أن قوى الرجعية قد غلبت الحرية؛ وأتته صدمة أخرى أعنف من السابقة، في صورة رسالة من زوجته تنبئه فيها بيأسها من مغامراته وروحه المتقلبة، وتؤكد له عدم احتمالها لتلك المتاعب التي يرغمها عليها، أو لذلك البؤس الذي طال أمده بلا أمل في زواله؛ فكان رد ڤاجنر هو أنه لن يرغمها على تحمل ظروفه الشاقة ومشاطرته مستقبله المظلم، وترك لها مطلق الحرية في الانفصال عنه. وهكذا تم الفراق الذي ارتاح له ڤاجنر فيما بعد، وإن لم يكن فراقا نهائيا حاسما.
Página desconocida