Richard Feynman: Su vida en la ciencia
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Géneros
إلا أن لوس ألاموس كان لها تأثيرها البالغ على المسار المهني لفاينمان، وقد بدأ كل شيء بالصدفة البحتة، مثلما هو الحال مع أمور أخرى عديدة. ومرة أخرى نقتبس من كلماته: «معظم العلماء الكبار كانوا خارج البلدة لسبب أو لآخر، ينقلون أثاثهم أو أشياء من هذا القبيل؛ فيما عدا هانز بيته. ويبدو أنه عندما كان يبحث فكرة ما كان يحب دائما أن يناقشها مع شخص آخر. ولما لم يستطع العثور على أحد في الجوار، جاء لزيارتي في مكتبي ... وبدأ يشرح ما كان يفكر فيه. وفيما يختص بعلم الفيزياء فإنني أنسى مع من أتحدث بالضبط، لهذا كنت أقول له: «لا، لا! هذا جنون!» وما إلى ذلك. وكلما اعترضت على شيء، كان يتبين لي دائما أنني مخطئ، ومع ذلك كان هذا هو ما يريده.» ويتذكر بيته الأمر على هذا النحو: «لم أكن أعلم أي شيء عنه ... لقد حصل حديثا على شهادة الدكتوراه تحت إشراف ويلر في برينستون. بدأنا نتحدث، وكان من الواضح أنه شديد الذكاء. في الاجتماعات والندوات التي كانت تعقد، كان دائما ما يطرح أسئلة تنم عن ذكاء استثنائي وفكر ثاقب. وبدأنا نتعاون معا.» وفي ذكرى أخرى يقول: «كان شديد الحيوية منذ البداية ... أدركت على الفور أنه بمنزلة ظاهرة غير طبيعية ... كنت أعتقد أن فاينمان ربما يكون الأكثر عبقرية في القسم بأكمله، لذا تعاونا معا كثيرا.»
كانت الفرصة التي سنحت له للعمل مع بيته في لوس ألاموس حاسمة إلى أقصى حد. لقد أكمل كل منهما الآخر على نحو رائع، إذ تشاركا في حدس فيزيائي خارق للعادة، وقدرة تحمل ذهنية عالية، وقدرات حسابية فذة. غير أن بيته كان مختلفا تماما عن فاينمان، من عدة وجوه أخرى؛ كان هادئا ورزينا، وعلى العكس من فاينمان القابل للاستثارة، كان بيته «رابط الجأش». وقد انعكس هذا على أسلوب كل منهما في التعامل مع الرياضيات. كان بيته يبدأ الحسابات من البداية حتى يصل إلى النهاية، مهما طال الطريق بين البداية والنهاية ومهما كانت صعوبته. أما فاينمان فكان يبدأ من المنتصف أو حتى من النهاية، ثم يقفز عائدا تارة للوراء وتارة أخرى يتقدم للأمام إلى أن يقنع نفسه بأنه على صواب (أو خطأ). وفي جوانب أخرى كان بيته قدوة لفاينمان. لقد أحب فاينمان روح الدعابة التي يتمتع بها بيته، وسلوكه الرزين، وأسلوبه المباشر والأخوي في التعامل مع الآخرين. وفي حين ساعده ويلر في إطلاق حماسته وإبداعه، فإنه لم يكن بنفس براعة بيته في علم الفيزياء. ولو أراد فاينمان أن يرتقي لمستويات جديدة أعلى، فقد كان بحاجة لشخص يمكن أن ينافسه، وكان بيته هو الشخص المنشود.
بحلول الوقت الذي انتقل فيه بيته إلى لوس ألاموس، كان قد تمكن من الإجابة عن واحد من أهم التساؤلات المحيرة في علم الفيزياء الفلكية: كيف تتوهج الشمس؟ طوال ما يربو على قرن من الزمان ظل العلماء يتساءلون عن مصدر طاقة الشمس الذي يجعلها تشع ضياء منذ ما يزيد على 4 مليارات سنة. اقترح أول التقديرات، على لسان طبيب ألماني في أوائل القرن الثامن عشر، أنه لو كانت الشمس كرة هائلة الحجم من الفحم المشتعل، لظل في استطاعتها مواصلة الاشتعال وإطلاق ذلك القدر الذي نشاهده من الوهج لمدة تقارب 10 آلاف سنة، وهي فترة زمنية تصادف أنها تتفق مع بعض التقديرات التوراتية لعمر الكون. وفي وقت لاحق من نفس القرن، أعلن اثنان من الفيزيائيين المشاهير، وهما هينريتش هيلمهولتز ولورد كلفن، تقديراتهما التي تقول إن الشمس ربما كانت تشع بواسطة الطاقة المنطلقة أثناء عملية الانكماش بالجاذبية، وأن هذا المصدر يمكنه تغذية الشمس بالطاقة مدة قد تصل إلى 100 مليون سنة. غير أنه حتى هذا التقدير ظل أقل بكثير من أن يفسر العمر التقديري للمجموعة الشمسية، وهو عمر يقدر بمليارات السنين لا بمئات الملايين.
استمر هذا اللغز الغامض قائما طيلة عقد العشرينيات، عندما زعم عالم الفيزياء الفلكية البريطاني الشهير سير آرثر ستانلي إدنجتون أنه لا بد أن يكون هناك مصدر مجهول للطاقة يغذي باطن الشمس. كانت المشكلة أن نموذج حسابات عمر الشمس يفترض أن باطن الشمس لا تزيد درجة حرارته على 10 ملايين درجة مئوية، وهي بالطبع درجة حرارة شديدة الارتفاع لكنها ليست مرتفعة بما يكفي. وبعبارة أخرى فإن العمليات الفيزيائية المرتبطة بالطاقات المتوفرة عند درجات حرارة كتلك كان يعتقد أنها مفهومة جيدا، وما من مجال لفيزياء حديثة غريبة. ونتيجة لذلك، قوبل تصريح إدنجتون بالتشكيك، وهو ما أدى به إلى إطلاق عبارة التوبيخ الشهيرة التي قال فيها: «لأولئك الذين يعتقدون أن درجة الحرارة في مركز الشمس ليست مرتفعة بما فيه الكفاية لإحداث عملية فيزيائية جديدة أقول: اذهبوا وابحثوا عن مكان أكثر سخونة!»
بيته، الذي كان زميل دراسة لأعظم علماء الفيزياء النظرية في أوروبا، ومنهم أرنولد سومرفيلد وبول ديراك وإنريكو فيرمي، ثبت أقدامه بحلول أوائل الثلاثينيات ربما كأهم مرجعية في العالم في مجال الفيزياء النووية البازغ حديثا. وقد كتب مجموعة من المقالات النقدية الحاسمة في هذا الميدان، ودرسها فاينمان وهو طالب بالجامعة. ولو كان هناك شخص مؤهل لاكتشاف العملية الجديدة التي تتولد بها طاقة الشمس، لكان هذا الشخص هو بيته، وفي عام 1939 توصل لاكتشافه العظيم؛ لقد أدرك أن التفاعلات النووية المكتشفة حديثا (التي تشبه في جوهرها تلك التي استخدمت لاحقا في تصنيع القنبلة الانشطارية، لكنها بدلا من أن تكون قائمة على تحطيم أنوية ثقيلة كنواة اليورانيوم والبلوتونيوم، فإنها تقوم على عمليات اندماج لأنوية خفيفة كأنوية الهيدروجين لتتحول إلى أنوية أثقل) هي أساس إطلاق كميات مهولة من الطاقة . وإضافة إلى ذلك، أوضح بيته أن هناك سلسلة من التفاعلات تبدأ بالبروتونات، التي تشكل أنوية الهيدروجين، وتنتج في نهاية المطاف أنوية ثاني أخف عنصر بعد الهيدروجين، وهو الهيليوم، الذي يطلق طاقة تقدر بأكثر من 20 مليون ضعف الطاقة التي تطلقها تفاعلات كيميائية مشابهة بين أنوية الهيدروجين. وفي حين أنه عند درجة حرارة لا تزيد على 10 ملايين درجة مئوية ربما تستغرق نواة الهيدروجين في المتوسط أكثر من مليار سنة حتى تتعرض لتصادم قوي بما فيه الكفاية لبدء مثل هذا التفاعل، فإن أكثر من مائة ألف طن من الهيدروجين يمكنها أن تتحول إلى هيليوم كل ثانية، مولدة طاقة كافية لجعل الشمس تشع ضياءها الحالي لمدة تقترب من نحو 10 مليارات سنة.
وعن هذا الاكتشاف النظري المهم، منح بيته جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969، بعد أربع سنوات من تقاسم فاينمان الجائزة مع عالمين آخرين عن عمله في الديناميكا الكهربائية الكمية. وقد أعيد صياغة تفاعلات «الاندماج» النووي التي استخدمها بيته في تفسيره للتفاعلات التي تحدث داخل الشمس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات لتطوير «القنابل النووية الحرارية»، المعروفة باسم القنابل الهيدروجينية.
جند أوبنهايمر بيته في فريقه عام 1942 واختاره بحكمة ليرأس القسم النظري، الذي ضم أعظم العقول وأضخم الذوات التي ستقطن لوس ألاموس. لم يكن بيته مناظرا فكريا لهم فحسب، وإنما كانت قوة شخصيته الهادئة والمثابرة في آن واحد ضرورة أساسية للمعاونة على توجيههم وإخماد نيران الصراعات التي قد تنشأ بينهم، والأهم من هذا كله، تحمل سماتهم الشخصية الغريبة.
وجد بيته في فاينمان ضالته المنشودة لتمحيص وتنقية الأفكار، تماما مثلما وجد فاينمان في بيته المعلم الناصح المثالي الذي يساعده على توجيه خياله الخصب النشط. لم يضر أيا منهما أن كليهما يحب عمله. أحسن بيته في أنه سرعان ما أدرك موهبة فاينمان واتخذ ما بدا قرارا جريئا بتعيين الشاب البالغ أربعة وعشرين عاما فحسب قائدا لمجموعة علماء في قسم الفيزياء النظرية، متجاوزا بذلك زملاء أكبر منه سنا وأعظم حنكة. يتذكر ستيفان جرويف تفاعلاتهما معا قائلا: «كان في الإمكان سماع صوت ريتشارد فاينمان من طرف الممر النائي وهو يقول : «كلا، كلا، أنت مجنون!» وكان زملاؤه في القسم النظري بلوس ألاموس يرفعون أبصارهم عن أجهزة الكمبيوتر التي يعملون عليها ويتبادلون ابتسامات العالمين ببواطن الأمور. قال أحدهم: «ها هما يبدآن مجددا. البارجة وزورق الطوربيدات!»»
لم يكن من الصعب تخمين من منهما البارجة ومن الزورق. ومع ذلك، فبخلاف الضحك المشترك الصادر من القلب والتبارز الفكري، كان الأمر الذي ترك أكثر الانطباعات استدامة لدى ذلك الشاب الذي كان لا يزال في سن التأثر والانبهار هو إصرار بيته على ربط كل عملية حسابية نظرية برقم ما، أي كمية يمكن مقارنتها بنتائج التجارب العملية. ومهما قيل عن ذلك فإننا لن نتمكن من وصف عمق تأثير هذه السمة على كل ما قام به فاينمان بعد ذلك في حياته كعالم. وقد عبر هو نفسه عن الأمر فيما بعد بقوله: «كانت لبيته سمة تعلمتها منه، وهي أن تحسب الأرقام. فإذا كانت أمامك مشكلة ما، فإن الاختبار الحقيقي لكل شيء - والذي لا يمكنك التغاضي عنه - هو أن تستخلص الأرقام؛ فإذا لم تستطع تمثيل فكرك على أرض الواقع، فهو إذن غير ذي أهمية. لذا كان توجهه دائما هو استخدام النظرية. وهذا الاستخدام يتحقق من خلال تطبيق النظرية عمليا.»
كانت قائمة الأنشطة التي أنجزها فاينمان أثناء فترة عمله تحت قيادة بيته في لوس ألاموس مدهشة بحق، ويكفي تنوع هذه الأنشطة. لقد بدأ بأن ابتكر بسرعة طريقة لحساب تكامل عددي (أو إيجاد حاصل جمع) لما يسمى المعادلات التفاضلية من الدرجة الثالثة، التي تحتوي على مشتقات من مشتقات من مشتقات. وتبين أن طريقته تلك أكثر دقة مما يمكن للمرء أن يفعله بمعادلات أبسط منها من الدرجة الثانية. وفي غضون شهر تال، توصل فاينمان وبيته لمعادلتهما لحساب كفاءة السلاح النووي.
Página desconocida