Refuting Claims Against Islam and Its Prophet in the Hebrew Encyclopedia
رد الطعون الواردة في الموسوعة العبرية عن الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم
Editorial
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Géneros
ردُّ الطعون الواردة في الموسوعة العبرية عن السنة النبوية
د/موسى البسيط
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فالإسلام هو الطرح البديل الذي جاء ليحقق الأمن والسعادة والسلام للبشرية جمعاء، لقد جاء وارثًا لشرائع السماء ومهيمنًا عليها.
إنه يحرر العقل من الاستعباد، وينفض عنه غبار التعصب والتقليد، ويهدي البصائر المطموسة بحقائقه الدامغة وبراهينه الواضحة الساطعة، فما من عقيدة من عقائده إلا ويسندها الدليل وتضيء بالحجة.
إن أصدق ما يوصف به الإسلام أنّه ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور:٣٥] كما جلّى ذلك الله في كتابه ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ﴾ [النور:٣٥]
والكفر في كل زمان يتشابه في أهدافه وغاياته، وفي تصوراته وأساليبه، فتجد أساطينه يُعمي التعصبُ بصائرَهم، ولا يزالون يثيرون حول الإسلام ورسولِه ومصادرِه الشبهاتِ والشكوكَ، زاعمين في صنيعهم سلوك المنهج العلمي وَهُم منه برآء.
ولقد نظرت في المجلد الرابع من "الموسوعة العبرية" في مادة "الإسلام" فألفيت فيها كثيرًا من المغالطات والمزاعم، فرأيت من الواجب أن أتناولها بالردّ العلمي والتفنيد، بعيدًا عن الانفعال العاطفي.
1 / 1
إنّ المؤلفين في مادة "الإسلام" في الموسوعة هم: لاستر، وشموئيل م. ستيرين، وهم يستندون إلى كتابات المستشرقين أمثال: إيسدبي، و"إش. د.غويطن" و"ي. ي.ر يفيلين" "وحافا لزروس. يافا". و"غولد تسهير" وغيرهم.
ولاشك أنّ لهذه الأسماء بريقها وشهرتها في أوساط الاستشراق والمستشرقين. ولابد لنا قبل تناول الشبهات المثارة في الموسوعة العبرية حول الإسلام ورسوله أن نقدم لمحة عن الاستشراق وجذورِه وأهم سمات مناهج المستشرقين في البحث في دراساتهم الإسلامية.
1 / 2
الاستشراق
جذور الاستشراق
...
الاستشراق:
لعل أدق التعاريف للاستشراق أنه مصطلح يطلق على دراسات أكاديمية يقوم بها غربيون من أهل الكتاب للإسلام والمسلمين في شتى الجوانب: عقيدة، وثقافة، وشريعة، وتاريخًا، ونُظمًا، وثروات وإمكانات ... بهدف تشويه الإسلام، ومحاولة تشكيك المسلمين فيه وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تسويغ هذه التبعية بدراسات ونظريات تدّعي العلمية والموضوعية، وتزْعم التفوّق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي (١) .
ويرى الدكتور إدوارد سعيد أن الاستشراق أسلوب غربي للهيمنة على الشرق وإعادة صياغته وتكوينه فكريًا وسياسيًا، وممارسة السلطة عليه (٢) .
والشرق الذي يسعى الغرب إلى إحكام السيطرة عليه وإعادة صياغته وبنائه هو الشرق الإسلامي.
إنّ توجّه الأكاديميين لدراسة الشرق الإسلامي نابع من منطق إحساسهم بالتفوق العنصري والثقافي على الشرق، ويتّصف هؤلاء الأكاديميون بصفات لها تأثيرها في دراساتهم، فليسوا هم من المسلمين، بل عُرفوا بالعداوة للإسلام وتخصصوا بالكيد للمسلمين.
_________
(١) غراب، أحمد، رؤية إسلامية للاستشراق ص٩.
(٢) Edward Said: Orientalism- p-i.
1 / 3
جذور الاستشراق:
يعد الاستشراق موقفًا عقديًا وفكريًا يقفه من الإسلام مَن لا يؤمن به منذ ظهوره وحتى اليوم، وهو موقفُ الإنكار للرسالة والتكذيب للرسول ﷺ، وإثارة الشبهات حول الإسلام وكتابِه ورسوله بوجه خاص، لتشكيك المسلمين في دينهم تمهيدًا لردّتهم.
وليس الاستشراق في نشأته جديدًا، بل له أصوله الضاربة في التاريخ، فقد وجه الكفار سهام التشكيك إلى مصداق مصدر الرسالة التي جاء بها محمد ﷺ، وتركزت افتراءاتهم وشبهاتهم حول الزعم بأنّ القرآن ليس وحيًا، وأنّه من تأليف محمد ﷺ أو عاونه على تأليفه وتَعَلُّمِه بَشَر: ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء:٥] .
وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحاقة:٤٠-٤٣] .
وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان:٤-٥] .
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل:١٠٣] .
إنّ هذه الآية تشير إلى زعم الكفار أنّ غلامًا نصرانيًا أعجميًا لا يعرف
1 / 4
العربية هو الذي كان يُعلم رسول الله ﷺ (١) .
ويتكرر هذا الزعم على ألْسنة المستشرقين في العصر الحديث فيقولون: إنّ القرآن يستمد كثيرًا من موضوعاته من المصادر اليهودية والنصرانية (انظر ص١٥ من هذه الدراسة) - إن الافتراءات التي تصدر عن المستشرقين ضد الإسلام ورسوله ومصادِره هي افتراءاتٌ قديمة، لكنهم يُلبسونها ثوبًا جديدًا، ويُضْفون عليها ما يسمى بمسْحَة المنهج العلمي - وهو من العلمية براء - وإنّما كان هذا التشابه في الافتراءات؛ لأن نفوس مَنْ تصدر عنهم هذه الدعاوى نفوسٌ متشابهةٌ تتصف جميعها بالجحود والطغيان والاستكبار عن قبول الحق وإتباعه.
وتكاد تجد إجماعًا من المستشرقين قديمًا وحديثًا على فكرة إنكار أن القرآن وحيٌ من عند الله، وأنّ محمدًا ﷺ اعتمد كثيرًا في القرآن على الأخذ من اليهودية والنصرانية، وبخاصة على الأخذ من العهدين القديم والجديد أي من التوراة والإنجيل (انظر ص١٣ من هذه الدراسة) . ويردد هذا الزعم "ريتشارد بل" في كتابه "مقدمة القرآن" حيث يرى أنّ رسول الله ﷺ كانت فرصته في المدينة للتعرف على ما في العهد القديم أفضل من وضعه السابق في مكة؛ إذ كان على اتصال بالجاليات اليهودية في المدينة، وعن طريقها حصل على قسط غير قليل من المعرفة بكتب موسى على الأقل (٢) .
وعن التأثير النصراني في القرآن يقول "بارت": (٣)
_________
(١) انظر: تفسير ابن كثير (٤/٥٢٣) .
(٢) اللبان، إبراهيم، المستشرقون والإسلام ص١٥ (ملحق مجلة الأزهر، نيسان ١٩٧٠م) .
(٣) زقزوق، محمود حمدي، الإسلام في الفكر الغربي ٦٧-٦٨.
1 / 5
"لقد كانت معلومات الناس بمكة - في عصر النبي - عن النصرانية محدودة وناقصة، ولم يكن النصارى العرب سائرين في معتقداتهم في الاتجاه الصحيح، ولهذا كان هناك مجال لظهور الآراء البدعية المنحرفة، ولولا ذلك لما كان محمد على علم بأمثال تلك الآراء التي تنكر صلب المسيح، وتذهب إلى أنّ نظرية التثليث النصرانية لا تعني الأب والابن والروح القدس، وإنّما تعني الله وعيسى بن مريم، وعلى أية حال فإن المعارف التي استطاع محمد أن يجمعها عن حياة المسيح وأثره كانت قليلة ومحدودة، وعلى العكس من ذلك كان محمد يعرف الشيء الكثير عن ميلاد عيسى وعن أمه مريم".
وملخص قول "بارت" أن محمدًا هو مؤلف القرآن، وأنه جمع معلوماته عن المسيح وأمه من شائعات النصارى.
لقد ذهب كثير من المستشرقين إلى زعم أنّ مصدر محمد عن النصرانية هو "بحيرى الراهب" في رحلته التجارية إلى الشام، بل إنّ مقابلته لبحيرى دفعته ليتمثل في نفسه ما سمعه من بحيرى وعرفه من يهود، فخرج بهذا الدين (١) .
إنّ كل هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة، ولا سند لها من التاريخ، وقد ناقشها الدكتور "محمد عبد الله دراز" مناقشة علمية قيمة، وتوصل إلى القول: "إن جميع سبل البحث التي وقعت تحت أيدينا وناقشناها ثبت ضعفها وعدم قدرتها على تقديم أي احتمال لطريق طبيعي أتاح للنبي ﷺ فرصة
_________
(١) وقصة بحيرى ضعَّفها أهل العلم ولم يثبتوها ورأوها منكرة.
انظر: زاد المعاد (١/١٨)، وميزان الاعتدال (٣/٥٨١)، وتلخيص الذهبي لمستدرك الحاكم (٢/٦١٥) .
1 / 6
الاتصال بالحقائق المقدسة، ورغم الجهد الذهني الذي نبذله لتضخيم معلوماته السمعية ومعارف بيئته فإنّه يتعذر علينا تفسيرًا كافيًا لهذا البناء الشامخ من العلوم الواسعة والمفصلة التي يقدمها لنا القرآن في مجال الدين والتاريخ والقانون والكون والأخلاق" (١) .
ولتفنيد زعمهم نقول: إن القرآن أتى بالعقائد والأصول العامة التي أتت بها كل رسالات التوحيد الموحَى بها قبلَه، وقد جاء القرآن وهو أعلى وأوسع وأكمل من كل المعلومات التي كانت لدى بحيرى الراهب ولدى كل النصارى واليهود، جاء القرآن مصدقًا لما نزل على موسى وعيسى وداود وسليمان، كما جاء القرآن مهيمنًا على هذه الكتب وحاكمًا عليها، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة:٤٨] .
ولكن هذا القرآن يختلف عن الكتب السابقة بما يلي:
أولًا: الكتب السابقة أنزلت على رسل بُعثوا إلى أقوامهم خاصة، وهذا القرآن أنزل إلى الناس عامة.
ثانيًا: أنّ الكتب السابقة "التوراة والإنجيل" حُرّفت، بينما بقي القرآن محفوظًا من كل تحريف وتبديل، وقد أكد الله تعالى ذلك بقوله عن اليهود: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة:٧٩] .
_________
(١) دراز، محمد عبد الله، مدخل إلى القرآن، ١٦٥.
1 / 7
وقوله: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ [النساء:٤٦] .
وقال عن النصارى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ [المائدة:١٤] .
ثالثًا: ثم إن القرآن يخبرنا عن تحريف أهل الكتاب لعقيدة التوحيد ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة:٣١] .
فكيف يُعقل أن يأخذ القرآن عن الكتب التي أعلن تحريفها؟ وتحريف التوراة والإنجيل في مقابل خلو القرآن من التحريف حققه العلماء الباحثون في مقارنة الأديان.
إنّ دعوى استفادة الإسلام من اليهودية والنصرانية تكذبها الوثائق التاريخية التي تتعلق بالعصرين الجاهلي والإسلامي، وكلها تؤكد أنّه ليس ثمة تأثير أجنبي في تلك البيئة على مصادر الإسلام.
إن الإسلام ليس دينًا تابعًا لأي دين آخر، ولكنه الدينُ الذي أراده الله خاتمًا للأديان، إن منهج المستشرقين في دراسة الإسلام منهج مرفوضٌ؛ إذ إنّ منهج التأثر والتأثير بين التراث الإنساني منهجٌ قاصرٌ عن فهم طبيعةِ الوحي الإلهي.
سمات منهاج المستشرقين في البحث: إن موقف المستشرقين في دراساتهم عن الإسلام لا يتسم بالموضوعية ولا النزاهة، بل إننا من خلال اطلاعنا على بحوثهم ودراساتهم، وجدنا أن بحثهم "العلمي" اتسم بإساءة الظن والتشويه والتحريف والجهل والتحكّم في المصادر، بل والتحكّم بالنتائج قبل إجراء الدراسة.
سمات منهاج المستشرقين في البحث: إن موقف المستشرقين في دراساتهم عن الإسلام لا يتسم بالموضوعية ولا النزاهة، بل إننا من خلال اطلاعنا على بحوثهم ودراساتهم، وجدنا أن بحثهم "العلمي" اتسم بإساءة الظن والتشويه والتحريف والجهل والتحكّم في المصادر، بل والتحكّم بالنتائج قبل إجراء الدراسة.
1 / 8
ويرحم الله الدكتور السباعي فلقد فصّل جميع الظواهر التي يوصف بها منهاج الاستشراق، وأنا بدوري أوردها كاملة كما ذكرها.
١- سوء الظن والفهم لكل ما يتصل بالإسلام في أهدافه ومقاصده.
٢- سوء الظن برجال المسلمين وعلمائهم وعظمائهم.
٣- تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف العصور - وخاصة في العصر الأول - بأنه مجتمع متفكك تقتل الأنانية رجاله وعظماءه.
٤- تصوير الحضارة الإسلامية تصويرًا دون الواقع بكثير؛ تهوينًا لشأنها واحتقارًا لآثارها.
٥- الجهل بطبيعة المجتمع الإسلامي على حقيقته، والحكم عليه من خلال ما يعرفه هؤلاء المستشرقون من أخلاق شعوبهم وعادات بلادهم.
٦- إخضاع النصوص للفكرة التي يفرضونها حسب أهوائهم، والتحكم بما يرفضونه ويقبلونه من النصوص.
٧- تحريفهم للنصوص في كثير من الأحيان، تحريفًا مقصودًا، وإساءتهم فهم العبارات حين لا يجدون مجالًا للتحريف.
٨- تحكمهم في المصادر التي ينقلون منها، فهم ينقلون مثلًا من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث، ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه، ويصححون ما ينقله (الدميري) في كتاب (الحيوان)، ويكذبون ما يرويه "مالك" في "الموطأ"، كل ذلك انسياقًا مع الهوى، وانحرافًا عن الحق (١) .
_________
(١) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ١٨٨-١٨٩.
1 / 9
إن مناهج المستشرقين تعتمد التشكيك في كل ما ينبثق من الإسلام ابتداء من إنكار رسالة محمد ﷺ ونزول القرآن الكريم عليه.
ثم تشكيكهم في صحة الحديث النبوي، رغم الجهود الجبارة التي بذلها علماؤنا لتنقية الحديث الصحيح من غيره، مستندين إلى منهج النقد العلمي الذي تفتقر إليه كتب اليهود والنصارى.
كما شكك المستشرقون في قيمة الفقه الإسلامي، وزعموا أنّه مستمد من القانون الروماني، الأمر الذي أثبت العلماء بطلانه، وتوصلوا إلى استقلالية الفقه الإسلامي.
وشكك المستشرقون في اللغة العربية وقدرتها على استيعاب كل جديد.
إن المتأمل في دراسات المستشرقين يلحظ الهجمة الشرسة على الإسلام ونبيه، ونظمه بكل الوسائل والأساليب، ومن خلال ذلك تظهر الخدمة الجليلة التي يقدمها الاستشراق للاستعمار أيًّا كان هذا الاستعمار.
وإلى مناقشة شبه أصحاب الموسوعة، والرد عليها:
1 / 10
الإسلام هو الدين الحق
ديانات التوحيد
...
الإسلام هو الدين الحق:
زعم كاتب الموسوعة العبرية (١) في المجلد (٤) الصفحة (٩٥٤) الفقرة الأولى: "أن الإسلام منبثق من اليهودية".
وقال في (ج٤) الصفحة (٩٥٥) الفقرة الثانية: "أدرك محمد ﷺ حقيقةَ وسببَ دعوتِه فقط، بعدَ وبفضل الاتصالات التي أجراها مع ممثلي الديانات الأخرى (اليهود والنصارى) وحتى الديانة الوثنية". وانظر أيضًا (ج٤) الصفحة (٩٥٦) الفقرة الأولى وج (٢٢) الصفحة (١٠١٢) الفقرة الأخيرة، وقال في الصفحة (٩٥٦) السطر الأول حتى آخر الصفحة:
"إن محمدًا ﷺ اعترف طوال حياته بتأثير ديانات التوحيد القديمة (اليهودية والنصرانية) ".
"في البداية ما كان يخطر بباله أنّه يدعو إلى دين جديد، وإنما كان التجديد فقط بكون الكتاب الذي جاء به عربيًا.
وكان محمد يعتقد أن شعبه سيحظى منذ تلك اللحظة بنفس القوانين الجيدة والمناسبة التي أعطاها الله لشعوبٍ سابقةٍ بلغاتها، فيحظى بانتقاء الجيد مما في التوراة".
"وعندما رأى محمد ﷺ أن اليهود في المدينة لا يرون في الإسلام الصورة
_________
(١) رجعت في نقد ما جاء في الموسوعة العبرية إلى المجلدات التالية منها، وهي: (٤، ٢٢، ٢٦) وإلى "مذكرة" تتضمن أبرز الأفكار المحرّفة عن الإسلام أُخِذت من الموسوعة العبرية، والمذكرةُ تدرّس على سبيل النَقْد لها في كلٍ من كلية الشريعة بباقة الغربية، وكلية الدعوة والعلوم الإسلامية – بأم الفحم، فحيث كان الرقم من ١-٤٠ فهو في المذكرة.
1 / 11
العربية لديانتهم اليهودية، وعندها فقط أدرك أن ما يحمله يختلف عن اليهودية، لذا أخذ محمد ﷺ يسوّغ الفروق بين الإسلام واليهودية مثل: تغيير القبلة، وإلغاء صوم عاشوراء وإبداله بصوم رمضان، وإبدال اليوم المقدس بالجمعة مع السماح بالعمل فيه، والتسهيل بالأطعمة المسموحة، ولكن كل هذه الاختلافات كانت بالفرائض العملية، ولم تُلغ الطابع العام للإسلام والمتميز بقربه من اليهودية والمسيحية.
ويرى الباحث أندريه أنّ الإسلام تأثر باليهودية في النواحي المادية، وتأثر بالمسيحية في النواحي الروحانية"، وفي الصفحة (٩٥٤) الفقرة الأخيرة يقول في الموسوعة: "إن معنى كلمة الإسلام حسب تفسير محمد لها بالقرآن هو؛ إخلاص المؤمن لله، وفي صفحة (٤٠) فقرة (١) يقول: "تحريم الخمر تدريجيًا في القرآن مأخوذ من التلمود الذي نصّه "السكران يُمنَع من الصلاة" "السكرانُ يصلي كمن يعبد الأوثان". (من المذكرة) .
الرد:
إنّ الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله للبشرية وأرسل به الرسل جميعًا – إنه دين الأنبياء كلهم ودين محمد ﷺ على وجه الخصوص، وليس الإسلام منبثقًا عن ديانة سابقة له، وإنما هو امتدادٌ لرسالات السماء التي جاءت بمعنى واحد وأصل واحد هو عبادة الله وحده لا شريك له.
ولا بد لنا في ردنا على مزاعم الموسوعة العبرية من إيراد الحقائق والثوابت التالية:
إن الإسلام في اللغة: يعني الخضوع والاستسلام والانقياد لله رب العالمين، وهو في الاصطلاح: الانقياد التام لشرع الله تعالى بتمام الرضا والقبول.
1 / 12
وهو دين الله المرضي عنده، أوحى به إلى رسُله الكرام، وبلّغوه إلى الناس: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران:١٩]، ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران:٨٥]، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] .
ثم خُصّ لفظ الإسلام بالدين الذي جاء به محمد ﷺ من ربه، وبالانقياد التام له بلا قيد ولا شرط، وبهذا الانقياد يظهر خضوع الإنسان لخالقه ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] .
هذا هو مفهوم الإسلام في القرآن الكريم: مفهومٌ عامٌ وآخر خاص.
ثم لما سُئل رسول الله ﷺ عن الإسلام قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا" (١) .
إنّ هذا التعريف للإسلام وإنْ كان من رسول الله ﷺ، إلا أنّه من وحي الله إليه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣-٤] .
وهو تعريف جامع بيّن فيه أنّ الإسلام يقوم على دعائم ثلاثة أساسية هي:
_________
(١) أخرجه مسلم رقم (١) .
1 / 13
١- شهادة أن لا إله إلا الله.
٢- وشهادة أنّ محمدًا رسول الله.
٣- والعمل الصالح وفي مقدمته: الصلاة والزكاة والصيام والحج على المستطيع. وإنّما اكتفى بهذه الأعمال ليؤكد أهميتها، وإن كانت حياة المسلم كلها عمل صالح منبثق من طاعة الله، بالإقرار والاعتراف بوحدانيته في الإلوهية والربوبية والحاكمية، والإقرار بنبوة محمد ﷺ والنزول على ما جاء به من ربه.
ديانات التوحيد:
إنّ الإسلام والمسيحية واليهودية ديانات سماوية توصف في دوائر المعارف بأنها ديانات التوحيد، وهذا حق وصدق إذا ما نظرنا إلى أصول الديانتين اليهودية والمسيحية قبل أن تمتد إليهما يد التحريف والتبديل، إنّ اتحاد هذه الديانات في العقيدة أدخل في أذهان البعض فكرة انبثاق الإسلام من اليهودية وتأثره بها، أو أنه امتداد لها.
وفي معرض الرّدّ على هذا الزعم يجدر أن نشير إلى أنّ مصدر الكتب السماوية واحد وغايتها واحدة، واستمع إلى قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿الم، اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ، مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران:١-٤] .
أجل، جاءت الكتب السماوية لتكون منهج حياة للبشر، تهديهم وتصلح حالهم، ولقد بيّن الله في القرآن الكريم الهدف الذي من أجله تنزلت التوراة: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ
1 / 14
لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾ [المائدة:٤٤] .
ولا شك أنّ الديانات السماوية والرسل جميعًا متفقون في دعواتهم، فلقد جاء الدين واحدًا، فالإسلام شعارٌ عام كان يدور على ألْسنةِ الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم عصور التاريخ، من لدن نوح ﵇، إذ قال: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس:٧٢]، وإبراهيم ﵇: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة:١٣١]، وحتى موسى ﵇ إذا قال لقومه: ﴿يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ﴾ [يونس:٨٤] .
جوهر الرسالات السماوية: إنّ لب دعوة الرسل، وجوهر رسالاتهم إنما هو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبْذ ما يُعبد من دونه، وقد جاءت هذه القضية في القرآن في مواطن شتى من سيرة الرسل الكرام: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥]، ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣] .
بعض ما اتفقت عليه الرسالات: وباستعراض آيات الكتاب نجد أمورًا اتفقت عليها الرسالات، مما يوهم بأنّ المتأخر من الرسل اقتبس من المتقدم، وليس الأمر كذلك، غاية ما في الأمر أنّ مصدر هذه الرسالات واحد وبينها قواسم مشتركة، ولكن كلًا منها يحمل استقلالية وتميّزًا.
جوهر الرسالات السماوية: إنّ لب دعوة الرسل، وجوهر رسالاتهم إنما هو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبْذ ما يُعبد من دونه، وقد جاءت هذه القضية في القرآن في مواطن شتى من سيرة الرسل الكرام: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥]، ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى:١٣] .
بعض ما اتفقت عليه الرسالات: وباستعراض آيات الكتاب نجد أمورًا اتفقت عليها الرسالات، مما يوهم بأنّ المتأخر من الرسل اقتبس من المتقدم، وليس الأمر كذلك، غاية ما في الأمر أنّ مصدر هذه الرسالات واحد وبينها قواسم مشتركة، ولكن كلًا منها يحمل استقلالية وتميّزًا.
1 / 15
ومن القواسم المشتركة التي جاءت بها الديانات ودعت إليها واعتمدتها: الصوم والصلاة والزكاة ومواضع النسك: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ﴾ [الأنبياء:٧٣]، وقال تعالى لموسى ﵇: ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:١٤]، وقال عيسى ﵇: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم:٣١]، وقال تعالى مخاطبًا المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة:١٨٣] وقال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ [الحج:٣٤] .
إنّ هذه القواسم المشتركة بين ديانات السماء تختلف في أدائها من شريعة إلى شريعة، وقد يُحِلُّ الله أمرًا في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة.
وعلى الرغم من اشتراك الإسلام مع غيره في هذه العبادات إلا أنّه جاء بتشريع متفرّد مستقل، إنّ هذا التشابه في بعض العبادات والشرائع، لا يعني بالضرورة أنّ المتأخر أخذ من المتقدم فزاد عليه أو أنقص منه، وإنّما مردّ ذلك إلى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران:١٩]، وديانات السماء هي كالتوائم المتشابهة، والأنبياء أبناء علات أو إخوة من عَلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد كما قال النبي ﷺ (١) . إنّ دعوى تأثّر الإسلام باليهودية في
_________
(١) صحيح مسلم ٤/١٨٣٧ رقم (١٤٣) قال العلماء: أولاد العلات: الأخوة لأب من أمهات شتى، أصل إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة، فإنهم متفقون في أصول التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف (ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث ٣/٢٩١) .
1 / 16
النواحي المادية، وتأثره بالمسيحية الشرقية في النواحي الروحانية، هذه الدعوى التي ادعاها الباحث "أندريه" إنما ينطلق فيها من كون اليهودية يغلب عليها الطابع المادي، ومن كون المسيحية يغلب عليها الطابع الروحاني، في الوقت الذي يمتاز الإسلام عن الديانتين بإحاطة مبادئه بالجانبين معًا؛ إذ فيه رصيد الروح من عبادات، ورصيد المادة من معاملات، بل إنّ كل شأن من شؤون الإسلام تجده مزيجًا من الأمرين معًا.
وما دمنا وضحنا استقلالية رسالة الإسلام، وكونها تصدر مع رسالات السماء من مشكاة واحدة، إذن فإنّ هذه الدعوى من الباحث أندريه تضمحل وتتلاشى.
لقد جاءت رسالة الإسلام خاتمة للرسالات السماوية، لذا أوجب الله على جميع من بلغته هذه الدعوة من جميع الأمم الانقياد إليها، ولم يقبل من أحد منهم دينًا سواها.
نعم، ختم الله الشرائع والملل بالشريعة العامة، الكاملة، المحتوية على جميع محاسن الشرائع المتضمنة لجميع مصالح العباد في المعاش والمعاد، فأكمل الله بها دينه الذي ارتضاه لنفسه، وختم بها العلم الذي أنزله من السماء على رسله، وزادت عليه أمورًا عظيمة وأشياء كثيرة من العلوم النافعة والأعمال الصالحة التي خصّ بها هذه الأمة.
وفضلهم بها على منْ قبلهم من الأمم (١) .
_________
(١) ابن رجب، جميع الرسل كان دينهم الإسلام ص٢٠.
1 / 17
وحي الله إلى رسله
تشريع للحاضرة والبادية
...
وحي الله إلى رسله:
لقد خص الله رسله جميعًا بظاهرة الوحي؛ إذ بواسطته يتلقوْن عن ربهم كل ما يأمرهم بتبليغه للناس، وللوحي مقامات وصور تضمنتها الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى:٥١]
فيُلقى الوحيُ في قلب الرسول ﷺ ما يُؤْمر بتبليغه، قال رسول الله ﷺ: "إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" (١) .
ويكون الوحي للرسول بالمنام كما وقع لإبراهيم حين رأى في المنام أنّه يذبح ولده إسماعيل، فبادر إلى تنفيذ الأمر بعد أن عدّ الرؤيا أمرًا إلهيًا (٢) .
وفيما أخرجه البخاري من حديث عائشة قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرَى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" (٣) .
ويكون الوحي إلى النبي ﷺ بواسطة الملك كما كان ذلك في مجيئ جبريل
_________
(١) البغوي شرح السنة ١٤/٣٠٤، وجاء في المشكاة (٣/١٤٥٨) عزوه للبغوي بهذا السياق وللبيهقي في الشعب، لكنّه لم يذكر "إنّ روح القدس ... " وكذا ابن ماجه في سننه برقم ٢١٧٣ ك: التجارات بدونه، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (٢/٤)، وابن حبان في صحيحه كما في الموارد برقم ١٠٨٤، ١٠٨٥، وانظر الصحيحة للشيخ الألباني (١/٦/٢٠٩) .
(٢) تراجع سورة الصافات: ١٠٢-١٠٣.
(٣) البخاري في صحيحه، ك: بدء الوحي، وانظر (الأرقام) ٤٩٥٥، ٤٩٥٦، ٦٩٨٢.
1 / 18
﵇، ولم يقع كلام مباشر بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وبين الله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ﴾ [الشورى:٥١] .
وقد وقع كلام الله لبعض رسله، ولكن من وراء حجاب، فكلم موسى ﵇ فقال: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف:١٤٣] وقال: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه:١١-١٤] .
ورسولنا محمد ﷺ هو بشر يُوحَى إليه كما أَوْحى الله إلى رسله الكرام: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف:١١٠] .
﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء:١٩٢-١٩٥] .
والنبي الموحى إليه يجد اليقين بأنه من عند الله، سواء كان هذا الوحي بواسطة أم بغير واسطة بصوت يسمعه أو بغير صوت.
وباب النبوة ليس مفتوحًا لكل أحد عظم إشراقُه، أو سمت نفسُه، كما أنّ الوحي في مفهومه الديني الصحيح ظاهرة روحية خصّ الله بها من اصطفاه للنبوة.
ومن المستشرقين من يتحدث عن الوحي والنبوة كما يتحدث علماء النفس عن أبطال التاريخ وعظماء الرجال وقادة الثورات.. (١) .
_________
(١) مناهج المستشرقين ١/٢٧.
1 / 19
والحق أنّ هؤلاء المستشرقين لا يفهمون حقيقة الوحي والنبوة، لذلك ضلوا ضلالًا بعيدًا.
تشريع للحاضرة والبادية:
وفي (ج٤) صفحة (٩٥٥) الفقرة الثانية قال: "لكسبِ التأييد الشعبي فإن محمدًا ﷺ لكونه تاجرًا فقد انعكس ذلك على القوانين التي وضعها حيث وجّهها إلى سكان المدن لا البادية".
ونقول: إنّ التشريع الإسلامي ليس من محمد ﷺ بل من الله تعالى على لسان نبيه محمد، وليس لمحمد في هذا التشريع إلا التبليغ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [المائدة:٦٧] . وهذا الدين لا يُشَرِّع لطائفة دون طائفة، ولا للأغنياء فقط بل للناس جميعا بمختلف طبقاتهم وأجناسهم: الفقير والغني، الكبير والصغير، القوي والضعيف، العربي والأعجمي، الأبيض والأسود، الشرقي والغربي، على حد سواء ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ:٢٨] .
لقد جاء الإسلام بتشريع ينظّم حياة الإنسان بدءًا بالطهارة وكيفية الغسل، وانتهاء بتشريع العلاقات الدولية، وإنّنا لا ننكر أنّ رسول الله ﷺ كان قد اشتغل بالتجارة في شبابه وجرّبت خديجة مهارته وأمانته فيها (١)، لكن هذا لا يعني أنّه من أجل ذلك أرسى قوانين تنظّم التجارة وتُوجَّه لسكان المدن وتُغْفِل ساكني البادية.
_________
(١) البوطي، فقه السيرة، (٦٩-٧٠) .
1 / 20