الجندي الذي يهجم مجردا على حصون العدل والحق إنما هو الخائن بعينه، وهو الذي يجب أن يحاكم من أجل خيانته في المحكمة الحربية، وأما الجندي الذي نفض عن حذائه غبار شعبه وتبرأ من أمته لما رآها تحارب حربا ظالمة وتطوع في جيش الحرية والاستقلال فهذا - والله - يجب أن يكلل بالغار، يجب أن ينصب تمثاله في عاصمة الأمة ليقتدي به كل من جعل الحرب مهنته وحمل السلاح للارتزاق، ولكن ماذا تقدم الدول المتمدنة لمثل هذا الآن؟ إكليلا من الشوك عوضا من إكليل الغار ومشنقة بدلا من التمثال، وهكذا فعلت الحكومة البريطانية بالقائد لنش، وفعلت أكثر من ذلك، فقد قلت إن شرائعها لم تزل مشوهة بالخرافات والخزعبلات والشيطان الموهوم لم يزل في مجلة الأحكام الجنائية، وإليك نص التهمة التي رفعها نائب الملك إلى المحكمة قال:
قد أغرى الشيطان «لنش» وحمله على ترك الجند البريطاني ليحارب الملكة وحكومتها؛ ولذلك نطلب محاكمته كما يحاكم الخائنون. «قد أغرى الشيطان فلانا» تأمل هذه العبارة التي لم تزل في مجلة حكومة تفاخر جميع الشعوب بتمدنها، وهل تظن أنه يوجد قاض واحد بين كل قضاة إنكلترا المفكرين يعتقد بأن الشيطان أغرى لنش ليحمل السلاح على حكومته، ولكن القديم يبقى على قدمه والترقيع من مميزات تمدننا الحديث، أين هو الشيطان؟ وكيف هو؟ ومن هو؟ وبأي هيئة يظهر للإنسان ويوسوس بأذنه كما يعبر عن طريقة تكلمه في الكتب المقدسة، ومن منا رآه في غير عالم الخيال؟
والحق يقال: إننا لا نهذب ونمدن حقا قبل أن ننزع هذه الاعتقادات من تعاليمنا، ليس هناك شياطين غير بشرية، وعالم الجن هو عالم الوهم والخيال، هو عالم الشعراء لا عالم المتشرعين، قد يكون الشيطان جميلا في ديوان الشعر ولكنه في مجلة الأحكام قبيح، الشياطين الموهومة غير المحسوسة وغير المنظورة هي ناتجة إما عن اضطراب في المعدة أو اختلال في العقل أو عن جهل بربري، أقول هذا مستثنيا الشعراء؛ لأنهم وشياطينهم سواء.
خطاب المسيح1
لو قصد المسيح العود إلى العالم لاختار أن يظهر للوجود بطريقة مألوفة ليكتسب ثقة أبناء هذا الزمان الفاسد، فيدعونه إلى الخطابة ولا يعاملونه كما يعامل داوي الأميركي اليوم في الولايات المتحدة، وداوي هذا من الأنبياء العصريين ممن يمثلون أدوارهم الهزلية مجانا حبا بلهو الشعوب وتسلية الأمم. نعم إن هذا الجيل جيل متمرد عات فهو لا يعجب بالعجائب ولا يحفل بالأنبياء.
لنفرض أن المسيح ظهر ظهورا واضحا بطبيعته البشرية وبعد أن شب وبلغ الرشد وتخرج في إحدى الكليات الكبرى طفق يدرس حالة العالم الحاضرة ويراقب مجرى تعاليمه ونتائجها، فعلمه هذا يحزنه ولا جرم ويغضبه، فإذا كان اليهود قد صلبوا المسيح بالجسد منذ تسعة عشر قرنا فالمسيحيون الذين يفاخرون الشعوب بمسيحهم يصلبونه بالروح كل أسبوع بل كل يوم، ولعمر الحق إن من يعبدون المسيح يؤلمونه، وكل صلاة تصعد من فم المسيحيين أبناء هذا الجيل، هي مسمار في صليب المسيح، كل تضرع من تضرعاتهم هو إكليل شوك على رأس سيدهم. نعم إن المسيحية في حالتها الحاضرة لعدوة المسيح، إن يسوع وكنيسته على طرفي نقيض، ولو دعي لإلقاء خطاب في إحدى مدن أوربا الكبرى لاستهل كلامه بالترتيلة التي تنشد في جمعة الآلام فيقول آسفا:
أيا شعبي وصحبي أين عهد الإيمان؟
لأنه على نحو ما تقدم لم يزل يعذب ويصلب إن لم يكن بالجسد فبالروح، وبعد أن يتكلم في حالة الكنيسة الحاضرة وفي فسادها ويوبخ الرؤساء وينذرهم ينتقل إلى الدول المسيحية فيبرهن على غير عادته (أي: أنه لا يتكلم بالأمثال هذه المرة) بل يبرهن بالبرهان الساطع أن التعاليم الدروينية لا تنطبق بتة على تعاليمه وأن الدول والشعوب يعملون بتعليم بقاء الأنسب ويتصنعون بحب الضعيف والقريب والعدو، ويقول - والأسف ملء فؤاده - إن تنازع البقاء ينفي الشفقة والمحبة، ويقضي على التمدن بالزوال وعلى الجامعة بالاضمحلال ثم يفيض في المبادئ الاشتراكية، ويقابل بينها وبين تعاليمه، ويبين وجه الشبه بين الاثنين، ويطلب من دول الأرض وحكوماتها أن تؤيد الرسل الذين يبشرون بالحرية والحق والمساواة كما تؤيد من يبشرون بالمحبة والرجاء والإيمان، ويكون مجمل خطابه موجها إلى ثلاث فئات من الناس فيخاطب الأولى معاتبا ويخاطب الثانية شاكرا وأما الثالثة الكبرى فيكلمها مذكرا منذرا.
وأما العتب فيوجهه إلى أولئك الفلاسفة الذين قاوموا النصرانية مدعين أن نتائجها مخالفة لما كانوا يعتقدونه خيرا للجامعة، وهم الدهريون والعدميون الذين طعنوا طعنا شديدا على الدين المسيحي، فلهؤلاء يقول يسوع: «يحق لكم انتقاد رؤساء الكنيسة ولا لوم عليكم ولا تثريب إذا خالفتموني في الظاهر وأما مبادئنا الأساسية فواحدة، أنتم تبشرون مثلي بالحق والعدل والمحبة، ولكن الحق الحق أقول لكم إنكم تسلبون الإنسان أكبر تعزية وأعظم تسلية وتخطفون من نفسه كنز الرجاء والآمال بقولكم له: إن الضريح خاتمة الحياة، وإن الموت رقاد أبدي، فأين ذهبتم بالحياة الأخرى أيها العلماء، وكيف فاتكم أن النفس خالدة وأن بعد الموت حياة أسمى وأبقى، اجعلوا أساس تعليمكم حقيقة الثواب والعقاب فأجتمع إذ ذاك وإياكم في طريق واحدة ونبذل ما بوسعنا لتخفيف أثقال الحياة على الإنسان.
أما ما قيل لكم في العجائب التي صنعتها فلا يجب أن تكترثوا كثيرا به، ولا يجب أن يصدكم ذلك عن افتهام تعاليمي الأصلية المجردة من كل تنقيح وزيادة. خذوا الجوهر وانبذوا ما سواه ظهريا، خذوا الأساس وابنوا عليه وأنا أقيم بمعاقل علومكم وأكون أبدا معكم.»
Página desconocida