حكم الأوتوقراطيون زمنا طويلا فسقطوا فاندثرت آثارهم، ثم حكم الوجهاء والأكابر، زعماء الطبقة الوسطى، فكان حكمهم شبيها من وجوه عديدة بحكم الطغاة أرباب الصولجان والجنود، أي: أن مصالح الأفراد، وتقاليد الدول، ومآرب ذوي الثروة والسيادة، ومطامع السياسيين، بل آفات الهيئة الحاكمة كلها، كانت تظهر دائما بمظهر الشرائع والأحكام تارة على العمال وطورا على أرباب الفكر وأنصار الكمال، ويا لها من شرائع سنت لتعزيز الحكومات، لتعزيز الجندية، لتعزيز الأحزاب السياسية، لتعزيز المشاريع المالية والاقتصادية، يا لها من شرائع سنت باسم الديمقراطية فما انتفع بها غير أعدائها.
ثلاثون سنة ولت يا بني، والشعوب - وقد شبعوا حربا - راضون بما كان، ساكتون عن مظالم قديمة وجديدة، صابرون على فساد الأحكام وعقم الأيام، نعم رضينا بشرائع سنها مؤتمر السلم، وبعهود عقدت بين الأمم، قبل العالم معاهدة فرساي كما يقبل المريض الدواء.
ولكني لم أزل أذكر يوم عاد الرئيس ولسن من أوروبا مكللا بإكليل الإكرام والإجلال، مزودا زقوم الخيبة والفشل، ويا له من يوم تمثلت فيه آمال الأمة الأميركية لابسة الحداد، وآمال الدمقراطية مذبوحة على هيكل المطامع الدولية، وآمال الملايين من أبطال الحرب مدفونة معهم على ضفاف ال «مارن» و«السوم» وفي سهول «فلاندرس» و«شمباين.»
حتى إن أعداء الرئيس ندموا على ما بدا منهم من الاسترسال إلى التعصب السياسي والتحزب، وكانوا حانقين على ساسة أوروبا الذين أكرموا الرئيس إكراما جميلا منقطع النظير، وقد استطاعوا بدهائهم وغموض سياستهم وبمساعدة فريق من الأميركيين أنفسهم أن يحولوا دون ما كان يبشر به من الكمالات السياسية ويسعى إلى تحقيقها.
مهما قيل بالرئيس ولسن يا بني، فإننا اليوم متفقون مقتنعون أنه من أعظم رؤساء هذه البلاد، بل من أعظم كبار الزعماء في العالم، وإننا لنرى اليوم أن الأمم المتمدنة لم تكن عند انتهاء الحرب مستعدة لقبول كمالاته السياسية، ومع أن أغلاطه كبيرة كثيرة؛ فقد كان بعيد النظر وصادق اللهجة في سياسته الدمقراطية العمرانية، وإن الأمة التي ترفعه الآن إلى مقام «لنكلن» و«واشنطون» لهي عالمة بمواطن ضعفه، مدركة كل أغلاطه، وأكبر هذه الأغلاط وأضرها بخطته الدمقراطية الصميمة هو أنه أغضب الحزب الجمهوري قبل سفره إلى أوروبا، فإن تقيده في ذلك الزمان بحزبه الخاص إلى درجة التعصب الأعمى حمله على أن يؤثر سيادة الحزب على سيادة الأمة، والحكومة ناشئة من الأحزاب كلها.
نعم قد كان الرئيس من هذا القبيل رئيس حزبه لا رئيس الأمة جمعاء، ولكنه كان أيضا رئيس الأمم الصغيرة المظلومة في العالم بأسره، تلك الأمم التي كانت تنظر إليه نظر العليل إلى الشمس والسماء، وهي تؤمل أن يجيئها من يده الخلاص والحرية، نعم يا بني، إني لا أبالغ إذا قلت: إنه وإن كان - سياسيا - رئيس الحزب الدمقراطي فقط فقد كان - معنويا - رئيس الأمم جمعاء، ولكن القوة المعنوية لم تؤثر في سياسة ذلك الزمان الأوروبية، التي تواطأت وأعداءه عليه، وقد كان ولسن من هذا القبيل كمن يفادي مجانا بنصف ميراثه، كمن يرمي بنصف ثروته في البحر، أجل، قد أفقر الرئيس نفسه سياسيا، قد شطر قوته بيده شطرين، وترك عند سفره إلى أوروبا شطرا منها وراءه يسعى في مقاومته.
ولا أحد ينكر اليوم أن الحزب الجمهوري ساعد الساسة الأوروبيين في تحقيق مقاصدهم الاستعمارية ومطامعهم الدولية، بل ضرب الحرية ضربة أقعدتها، دوختها يا بني عشرين سنة، أجل، قد غلب ولسن في ذلك الزمان لا بقوة الحجة، ولا بسداد الرأي، بل بمساعدة أعدائه في هذه البلاد، فعقدت تلك المعاهدة في فرساي، المؤسسة على الانتقام والأثرة، وكانت الغرامة الحربية التي فرضت على ألمانيا أهم ما فيها.
معاهدة فرساي - وحق الغالب لا حقوق الأمم معزز فيها - لا تختلف يا بني عن معاهدة فيانا، وقد رضي العالم المتمدين بها؛ لأنه - كما قلت - كان قد شبع حربا، وقرف السياسة والمتاجرة بالسياسة، بل كان - والحق يقال - منهوكا، مستضعفا، سقيما.
على أن الأمم الصغيرة الجديدة التي ذكرتها تنبهت بعد بضع سنين إلى الخدعة الدولية وعلت فيها صرخة الأحزاب الوطنية، فتضاربت الآراء والمصالح، وتباينت المقاصد والغايات ودقت طبول التمرد والعصيان. فتفجرت براكين الثورة في الشرق الأدنى وفي البلكان، فتدخلت الدول العظمى بشئونها واحتلت بلادها بضع سنين، مثل ذلك احتلال روسيا قسما من بولندا، واحتلال ألمانيا قسما آخر، واحتلال النمسا قسما من أراضي السرب.
أثارت هذه الحركات الرجعية ثائر الشعب العام أو بالحري العمال من اشتراكيين وبلشيفيين وفوضويين فأخذوا يترقبون الفرص للوثوب على الحكومات الجمهورية المالية - حكومات الوجهاء والأكابر - أو بالحري الحكومات القيصرية الجديدة التي تواطأت وأمراء المال وأرباب الكنيسة في قديم الزمان.
Página desconocida