ولكني تحققت اليوم خطئي. فإن الجوع يوهن، يهزل، ينهك، يقعد، يهلك. وإن كان الجائع هائما في البرية يطلب الأعشاب يقتات بها فليس من الغريب أن يسقط في الطريق من شدة الجوع. نعم، رأيت كلاب السوق في الشرق في جوع ألصق بطونهم ووجوههم بالتراب، وكنت أجل البشر عن ذلة الكلاب وجوعهم.
فوا أسفاه! إننا لنتحقق اليوم من حال بلادنا صحة التعبير العربي، بل تحققنا التقصير فيه لا الغلو. إن ألوفا من إخواننا مطروحون اليوم في الطرق والأسواق تتلاشى أجسامهم عضوا عضوا، عيونهم شاخصة إلى الشمس نهارا وإلى السماء والنجوم ليلا، يسألون باري الأكوان كسرة من الخبز. قلوب واجفة، أبصار خاشعة، نفوس حزينة حتى الموت، معد تلتصق بالأضلع منهم كما تلتصق أجسامهم بالدقعاء. بالتراب. في فمهم المرة الصفراء - مر الحياة - يبتلعونها ثم يبتلعونها، وفي أعصابهم المتقلصة غصص الرعشة، وفي أجسامهم المرض والوهن.
شيوخ وأطفال، نساء ورجال، يسارعون إلى المدينة من الجبال علهم يلتقون في أسواقها ومن فضلات ذوي اليسار فيها كسرة من الخبز، فيتساقطون في الطرق كورق الخريف، وقد استحوذ عليهم الجوع المدقع. أفلا تشاركهم جوعهم يوما واحدا. أيها السوري؟ أفلا تمدهم بنفقة يوم من أيام يسرك؟
لو مر بهؤلاء المناكيد الجياع وحش ضار أو عقاب كاسر لمال بوجهه عليهم، لرثى لحالهم. وإننا نعلم أن في الحيوان غريزة هي أشرف من غريزة الإنسان التي أفسدتها المدنية والتكالب فيها. من الطيور من يطعم صغارها من قلبها إذا لم تجد لهم رزقا.
أيها السوري النائي عن إخوانك المنكوبين، جئت أخبرك خاشعا لا مفاخرا أني صمت يومين، فأنهكني، أقعدني يوم واحد من الجوع. فكيف بمن يصومون أياما، بل أسابيع؟ اليوم اليوم! من كان غنيا فليستعفف من كان مترددا في التبرع فليتقدم. من كان متقاعدا فلينهض. من كان في سبات فليستفق. وما الفائدة من القول: غدا غدا. إن مثل هؤلاء المستحجرة قلوبهم الذين يلوحون بثربدتهم للجائع لأقرب إلى الضاري من الحيوان منهم إلى الإنسان .
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
الصوم! التقشف يوما واحدا تملكون تلك النفس منكم الشارهة إلى اللذات. إن مثل هذه السيادة على أنفسكم لأشرف من وجاهة يجرها لكم المال. صوموا يوما واحدا وتصدقوا علينا بدولارين مما رزقتم. الأمة أمتنا جاثية على قارعة الطريق تئن من ألم الجوع - الجوع المدقع - الجوع المهلك. فهلا تسارعنا بل تسابقنا إلى إغاثتها؟ «أليس بلسان في جلعاد؟»
الشحاذة
من أنعم النظر في الصالح من أعمال الناس، كبيرها وصغيرها، ظاهرها وباطنها، خصوصية كانت أو عمومية؛ تحقق ما للمآرب النفسية فيها من المكانة والأهمية. وبعد النظر في طائفة منها، في الطبقات العالية كانت أو في ما دونها من الهيئة الاجتماعية؛ يرى أنها تقسم إلى قسمين: تلك التي تنحصر تماما في الأنانية، وتلك التي تتجاوز الأنانية إلى شيء من الغيرية.
Página desconocida