اجتزت الطريق في الجنينة أمام البيت وأنا متيقن أنه بيت صديقي؛ فكم مرة جلست وإياه في تلك الخيمة خيمة الياسمين التي لم أزل أذكرها، وكم مرة تمشينا مساء في ضوء القمر بين هاته الزهور وتحت هذه الأشجار، أشجار الليمون والنخيل نتباحث في شئون الحياة وفلسفة الوجود.
طفت حول البيت لا أدري من شدة اليأس والغم مسيري.
تيمور باشا من هو تيمور باشا؟ وبين أنا أردد الاسم هاجسا مر ولد في قميص بالية مقدودة وهو يلوك طرفها، فأوقفته سائلا أتعرف من هو صاحب هذا البيت؟ فأجابني على الفور: وكيف لا أعرفه، هو بيت سيدي ومعلمي جرجي أفندي ... - وأين جرجي أفندي اليوم؟ - أنت تمزح، كأنك لا تعلم .
قطعت من هذا الحي رجائي، ورحت أبحث في حي آخر، طرقت بابا طالما فتحه الخادم متأهلا مرحبا وطالما دخلته باسما مسرورا، دققت أولا وثانيا ولبثت أنتظر، ثم دققت بعصاي وهممت بعد هنيهة بالرجوع لظني أن هذا البيت أيضا من البيوت العديدة التي هجرها الأماجد الكرام، فسمعت إذ ذاك وطء أقدام على الدرج ويدا تعالج الباب، فتحت فيه النافذة الوسطى فلاح منها شيخ ملتح طاعن في السن.
قلت: هل مختار أفندي في البيت؟
وما كدت ألفظ الاسم حتى أقفل باب النافذة وسمعت الشيخ يقول: جاءوا يهزءون بي وبأحزاني ... كلاب ... خنازير ...
استحال نور النهار في عيني ظلاما وأحسست أني مثل سائر الناس أمشي والقيود في رجلي، همت في المدينة على وجهي لا أدري إلى أين يحملني اليأس، وأين تحط بي الكآبة.
أين أصحابي؟ أين إخواني؟ أين أولئك الذين كانوا بالأمس نور المدينة بل مصابيح الأمة؟ وبين أنا سائر في زقاق من الأزقة رأيت امرأة جالسة على قارعة الطريق كأنها من شدة الهزال والعياء «مومية» مصرية، وإلى كلي جنبيها صبي ذابل رأسه في حجرها، وهي تمد من أجلهما يدا رجفة نحيلة، كأنها عظام يحركها شبح الموت. - أعطوني الله يعطيكم، الله يتحنن عليكم، الله يفتح لكم أبواب الخير، الله يقيكم من الجوع، الله يصون حريمكم وأولادكم، حسنة للصغار، كانوا أربعة وصاروا اثنين ...
فقال أحد المارين: صدقت، وغدا تدفن الثالث وبعد غد الرابع.
ورأيت الناس - مع ذلك - لا يبالون، يمرون أمامها كأنهم عمي صم لا يرون صورة الشقاء في سواهم ولا يسمعون صوت البلاء في غير قلوبهم، لا تستوقفهم عاطفة الشفقة ولا تحركهم عاطفة الحنان، وهل يلامون وكل واحد منهم يحمل صليبه ويجر قيود بؤسه وغمه في مدينة الغم والبؤس، والجوع والدموع؟
Página desconocida