وكان أبو العلاء، فجاءت فلسفته الشعرية، وفيها من أصالة الرأي، ودقيق النظر، ورقيق الشعور، وغور الخيال، وحرية الفكر، ما جعل المستشرقين يقولون: إنه وجد ألف سنة قبل أوانه. وكان الفارض، فقال لهذه اللغة الشريفة: أريد منك مادة ذهبية لأسرار إلهية، أريد جلبابا هفافا لكيان خفي علي، أريد أن أبني بناء فخما لربة الحب والرؤيا، فقالت اللغة: لبيك! فنظم تلك القصائد الفريدة في لبها المنقطعة النظير حتى في الدواوين الإنكليزية والفرنسية التي أعرفها. •••
وهل أنا أنقض ههنا ما قلته في فن الإنشاء؟ عفوا أيها القارئ ... إذا كان لي أن أتطال إلى الجوزاء فأين لي أن أصلها؟ ولا تلوم البصيرة اليد في هذا العجز، ولا اليد البصيرة، على أن الشوق حسنة من حسنات الطالبين ولا حد له عندهم. وإني حتى في حبي هذه اللغة طالب، متصوف، فتعذرني، ويعذرني المقربون منها، إذا سرت حول بستانها هائما، وقد طالما ظننت الجدار الوهاج نهجا أو ستارا، فسقطت مرات عنده كذبابة تحاول الدخول من شباك زجاج مقفل. على أني تسلقت الجدار مرة؛ لجهلي مكان الباب منه، ولشدة ابتهاجي مما شاهدت سقطت في عليقة تحتي.
وسرت زمنا بين العليق والرياحين، في جادة تنتهي عند كل خطوة من خطواتي، أزرع ما قد لا يليق إذا نور، بعرش اللغة، زينة أو تقدمة، ولكني أؤمل أن ثباتي في ما هويت وقاسيت يجعلني - في الأقل - من المقربين. فها يدي ولم تزل دامية وثوبي ولم يزل مزقا، ويشهد علي سيبويه أني ما آثرت يوما ثمرة طيبة في بساتين الغرباء على زهرة اللهم ذات أريج في بستانه، لا والله حتى ولا على عنقود جميل اللون والشكل من عليق علمه - رحمه الله.
6
وهل أدناني هذا من روح اللغة؟ لا أنكر أنه استمالني وشوقني، وعلمني - فوق ذلك - السلام عند اللقاء، على أني - والحق يقال - ما رأيت غير أظلال وبعض أشعة من روحها في كتب النحو والبيان، وفي القاموس اقتفيت أثرها ولم أظفر بها، وفي دواوين الشعر ورسائل المترسلين، وقفت مرات عند هياكل لها فارغة، وقد تبقى عليها من الطيب، ونثر الأزاهر الذابلة، وسائل الشموع، ما يثير حتى في الوثني الشوق والتوقى. وبكلمة بسيطة: إن في كتب اللغة يا صديقي أدلاء فقط، وهم - وإن تعددت آراؤهم في «حتى» وسخافات شتى - يشيرون إجماعا إلى الحقيقة الكبرى، وهي: أن روح اللغة في تطورها.
فها مثلا أبو العلاء: إن طريقته في النظم غير طريقة أصحاب «المعلقات» قبله وأصحاب «الموشحات» بعده، وإن أسلوب البهاء زهير لغير أسلوب سمية بن سلمى، والمتنبي في بعض الاصطلاحات والأوضاع غير ابن زيدون فيها، وكفى بالقارئ أن يعود إلى ما هو معلوم من أطوار الشعر العربي فيبدو له من الفرق بين الجاهلين مثلا والمولدين ما لا يحتاج إلى برهان.
إن روح اللغة كامنة أيضا في عادات أبنائها - أبناء حاضرها وماضيها - وأخلاقهم وتقاليدهم واصطلاحاتهم العامة. والكاتب العصري من درس هذه العادات والاصطلاحات واتخذ منها مادة - أو في الأقل - دليلا لإنشائه، فيجيء وفيه من المعاني والمباني ما هو جلي، حي، وقريب من أفهام أبناء زمانه. ومن الخطأ أن يظن أن كل ما جاء به عرب الجزيرة إنما هو منتهى الفصاحة والبلاغة، وأن استعاراتهم كلها جميلة في كل مكان وزمان. ومن الوهم أن نتصور في الماضي رب العصمة والكمال، كما أنه من الوهم أن نحصر نبوغ زماننا في إحسان لغة مضر وقحطان، أو في الخروج عليها.
إني من الخوارج، ولكني أحترم من الماضي ما كان موافقا الحاضر ومفيدا له، أو ما كان فيه - في الأقل - حقيقة ثابتة، أو جمالا لا يغيره الزمان ولا ينكره المكان. ولست أرى شيئا من هذا في كثير مما ألفناه، فلا فائدة في أن نضع لسان قحطان في فم المصري، أو لسان حمير في فم الشامي، فينطقون بحرف اللغة ويعبثون بروحها، بل جل الفائدة في أن نتعلم أن نقتبس روح اللغة ونتشربها مما لدينا من نفيس آدابها وأوضاعها الجميلة، ومما هو حي مثمر من عادات أبنائها وتقاليدهم.
ولا شك أن اللغة العربية حافلة بالألفاظ والأوضاع التي تمكن من الإفصاح عن أدق الأفكار، وأرق العواطف، وأبعد التصورات، ولكنها تقصر عند الغريب الجديد من مظاهر الحياة في هذا الزمان، لذلك هي تحتاج إلى مجمع علمي
7
Página desconocida