الأدلة الدالة على نجاسته فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد أو غلط في الاستدلال كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرّمه الله تعالى زاعمًا أن النجاسة والتحريم متلازمان وهذا الزعم من أبطل الباطلات فالتحريم للشيء لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا التزام؛ فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلًا: "إنما حُرِّم من الميتة أكلها" ١ ولم كان مجرد تحريم شيء مستلزمًا لنجاسته لكان مثل قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ إلى آخره دليلًا على نجاسة النساء المذكورات في الآية والمسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا كما ثبت ذلك عنه ﷺ في الصحيح وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق كالأنصاب والأزلام وما يُسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة فإن قلت إذا كان التصريح بنجاسة شئ أو رجسيَّته أو ركسيَّته يدل على أنه نجس كما قلت في نجاسة الروثة ولحم الخنزير فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ﴾ قلت: لما وقع الخمر ههنا مقترنًا بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرِّجسيّة إلى غير النجاسة الشرعية وهكذا قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم والتوضؤ من آن يتهم والأكل فيها وإنزالهم المسجد كان ذلك دليلًا على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية بل قد ورد البيان من الشارع لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة فقال في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد: "ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاسهم على أنفسهم"، فهذا يدل على أن تلك النجاسة حُكمية لا حِسِّيّة والتعبد إنما هو بالنجاسة الحسية، وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته ولكنه قد
_________
١ هذا فهم خطأ ولم يقصد الشارع بالحصر –إذا سلمنا أن إنما تدل على الحصر- أنها ليست نجسة فإن الصحابة ﵃ فهموا نجاسة الميتة بكل أجزائها مما علموه من الشريعة فأعلمهم أن المحرم هو أكلها وأما الانتفاع بجلدها فجائز بعد دباغه ولذلك ورد مرفوعًا من حديث ابن عباس: إذا دُبغ الإهاب فقد طهر. رواه مسلم ورواه الحاكم بلفظ: دباغه يذهب بخبثه أو نجسه أو رجسه، وهو صحيح لا علة له وله ألفاظ أخرى تدل على أن الميتة نجسة. انظر شرحنا على التحقيق لابن الجوزي. مسألة رقم ١٧.
1 / 20