Rasail
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
Géneros
مخصوص بعلامة لها في العقل موقع كموقع فلق البحر من العين، وذلك قوله لقريش خاصة وللعرب عامة مع ما فيها من الشعراء والخطباء والبلغاء والدهاة والحلماء وأصحاب الرأي والمكيدة والتجارب والنظر في العاقبة: إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي وصدقتم في تكذيبي. ولا يجوز أن يكون مثل العرب في كثرة عددهم واختلاف عللهم والكلام كلامهم وهو سيد عملهم قد فاض بيانهم وجاشت به صدورهم وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم حتى قالوا في الحيات والعقارب والذئاب والكلاب والخنافس والجعلان والحمير والحمام وكل ما دب ودرج ولاح لعين وخطر على قلب، ولهم - بعد - أصناف النظم وضروب التأليف كالقصيد والرجز والمزدوج والمجانس والأسجاع والمنثور، وبعد فقد هجوه من كل جانب، وهاجى أصحابه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجوه في المواقف، وخاصموه في المواسم، وبادروه العداوة، وناصبوه الحرب، فقتل منهم وقتلوا منه وهو أثبت الناس حقدا وأبعدهم مطلبا وأذكرهم لخير أو لشر وأنفاهم له وأهجاهم بالعجز وأمدحهم بالقوة، ثم لا يعارضه معارض ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر! ومحال في التعارف ومستنكر في التصادق أن يكون الكلام أخصر عندهم وأيسر مؤنة عليهم، وهو أبلغ في تكذيبهم وأنقض لقوله، وأجدر أن يعرف ذلك أصحابه، فيجتمعوا على ترك استعماله والاستغناء به وهم يبذلون مهجهم وأموالهم ويخرجون من ديارهم في إطفاء أمره وفي توهين ما جاء به، ولا يقولون بل لا يقول واحد من جماعتهم: لم تقتلون أنفسكم وتستهلكون أموالكم وتخرجون من دياركم والحيلة في أمره يسيرة والمأخذ في أمره قريب؟ ليؤلف واحد من شعرائكم وخطبائكم كلاما في نظم كلامه كأقصر سورة يخذلكم بها وكأصغر آية دعاكم إلى معارضتها. بل لو نسوا ما تركهم حتى يذكرهم، ولو تغافلوا ما ترك أن ينبههم، بل لم يرض بالتنبيه دون التوقيف. فدل ذلك العاقل على أن أمرهم في ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكونوا عرفوا عجزهم وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم فرأوا أن الإضراب عن ذكره والتغافل عنه في هذا الباب - وإن قرعهم به - أمثل لهم في التدبير وأجدر ألا ينكشف أمرهم للجاهل والضعيف وأجدر أن يجدوا إلى الدعوى سبيلا وإلى اختداع الأنبياء سببا؛ فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه، وهو قوله عز ذكره:
وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا . وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله أنفة وأفرط حمية وأطلبه بطائلة، وقد سمعوه في كل منهل وموقف، والناس موكلون بالخطابات مولعون بالبلاغات، فمن كان شاهدا فقد سمعه ومن كان غائبا فقد أتاه به من لم يزوده! وإما أن يكون غير ذلك ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة وهم يقدرون عليها؛ لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة والحكماء مع اختلاف عللهم وبعد هممهم وشدة عداوتهم على بذل الكثير وصون اليسير، وهذا من ظاهر التدبير ومن جليل الأمور التي لا تخفى على الجهال فكيف على العقلاء وأهل المعارف، فكيف على الأعداء؟ لأن تحبير الكلام أهون من القتال ومن إخراج المال. ولم يقل إن القوم قد تركوا مساءلته في القرآن والطعن فيه بعد أن كثرت خصومتهم في غيره! ويدلك على ذلك قوله عز وجل:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ، وقوله عز ذكره:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، وقوله تعالى ذكره:
وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، ويدلك كثرة هذه المراجعة وطول هذه المناقلة على أن التقريع لهم بالعجز كان فاشيا، وأن عجزهم كان ظاهرا. ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
تحداهم بالنظم والتأليف ولم يكن أيضا أزاح علتهم حتى قال تعالى:
قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وعارضوني بالكذب. لقد كان في تفصيله له وتركيبه وتقديمه له واحتجاجه ما يدعو إلى معارضته ومغالبته وطلب مساويه! ولو لم يكن تحداهم في كل ما قلنا وقرعهم بالعجز عما وصفنا، وهل هذا إلا تمديحه له وإكثاره فيه، لكان ذلك سببا موجبا لمعارضته ومغالبته وطلب تكذيبه؛ إذ كان كلامهم وهو سيد عملهم والمؤنة فيه أخف عليهم وقد بذلوا النفوس والأموال، وكيف ضاع منهم وسقط على جماعتهم نيفا وعشرين سنة مع كثرة عددهم وشدة عقولهم واجتماع كلمتهم، وهذا أمر جليل الرأي ظاهر التدبير.
فصل منه : في كراهة امتناعهم عن معارضة القرآن لعجزهم عنها: والذي منعهم من ذلك هو الذي منع ابن أبي العوجاء وإسحاق بن طالوت والنعمان بن المنذر وأشباههم من الأرجاس الذين استبدلوا بالعز ذلا وبالإيمان كفرا وبالسعادة شقوة وبالحجة شبهة، بل لا شبهة في الزندقة خاصة، فقد كانوا يصنعون الآثار ويولدون الأخبار ويبثونها في الأمصار، ويطعنون في القرآن ويسألون عن متشابهه وعن خاصه وعامه ويضعون الكتب على أهله، وليس شيء مما ذكرنا يستطيع دفعه جاهل غبي ولا معاند ذكي.
فصل منه : ولما كان أعجب الأمور عند قوم فرعون السحر ولم يكن أصحابه قط في زمان أشد استحكاما فيه منهم في زمانه، بعث الله موسى عليه السلام على إبطاله وتوهينه وكشف ضعفه وإظهاره ونقض أصله، لردع الأغبياء من القوم ولمن نشأ على ذلك من السفلة والطغام؛ لأنه لو كان أتاهم بكل شيء ولم يأتهم بمعارضة السحر حتى يفصل بين الحجة والحيلة لكانت نفوسهم إلى ذلك متطلعة ولاعتل به أصحاب الأشغال ولشغلوا به بال الضعيف، ولكن الله - تعالى جده - أراد حسم الداء وقطع المادة وألا يجد المبطلون متعلقا ولا إلى اختداع الضعفاء سبيلا، مع ما أعطى الله موسى عليه السلام من سائر البرهانات وضروب العلامات. وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله وعلى خاصة علمائه الطب، وكانت عوامهم تعظمهم على خواصهم، فأرسله الله عز وجل بإحياء الموتى؛ إذ كانت غايتهم علاج المرضى، وإبراء الأكمه؛ إذ كانت غايتهم علاج الرمد، مع ما أعطاه الله تعالى عز وجل من سائر العلامات وضروب الآيات؛ لأن الخاصة إذا بخعت بالطاعة وقهرتها الحجة وعرفت موضع العجز والقوة وفصل ما بين الآية والحيلة، كان أبخع للعامة وأجدر ألا يبقي في أنفسهم بقية. وكذلك دهر محمد
Página desconocida