Rasail
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
Géneros
فأما ملوك الأموية فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام - وكان جعفر بن سليمان كثيرا ما يذكر ذلك - وكان معاوية يبغض الرجل النهم على مائدته. وكان المنصور إذا ذكرهم يقول: كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع، وكان الوليد مجنونا، وكان سليمان همه بطنه وفرجه، وكان عمر أعور بين عميان، وكان هشام رجل القوم. وكان لا يذكر ابن عاتكة. ولقد كان هشام - مع ما استثناه به - يقال هو الأحول السراق، ما زال يدخل أعطيات الجند شهرا في شهر وشهرا في شهر حتى أخذ لنفسه مقدار رزق سنة، وأنشده أبو النجم العجلي أرجوزته التي أولها: «الحمد لله الوهوب المجزل.» فما زال يصفق بيديه استحسانا لها حتى صار إلى ذكر الشمس فقال: «والشمس في الأفق كعين الأحول.» فأمر بوجء عنقه وإخراجه. وهذا ضعف شديد وجهل عظيم. وقال خاله إبراهيم بن هشام المخزومي: ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين: حدا به الحادي مرة فقال:
إن عليك أيها البختي
أكرم من تمشي به المطي
فقال: صدقت! وقالت مرة: والله لأشكون سليمان يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك! وهذا ضعف شديد وجهل مفرط.
قال أبو عثمان: وكان هشام يقول: والله إني لأستحيي أن أعطي رجلا أكثر من أربعة آلاف درهم. ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار فاعتدها في جوده وتوسعه، وإنما اشترى بها ملكه وحصن بها عن نفسه وما في يديه. قال له أخوه مسلمة: أتطمع أن تلي الخلافة وأنت بخيل جبان؟ فقال: ولكني حليم عفيف. فاعترف بالجبن والبخل، وهل تقوم الخلافة مع واحد منهما؟ وإن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم والتغرير الشديد، ولو سلمت من الفساد لم تسلم من العيب. ولقد قدم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز بقوله: أعور بين عميان. وزعمتم أنه كان ناسكا ورعا تقيا، فكيف وقد جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائدة جلدة وصب على رأسه جرة من ماء بارد في يوم شات حتى كز فمات، فما أقر بدمه ولا خرج إلى وليه من حقه ولا أعطى عقلا ولا قودا، ولا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله وأحكامه وقصاصه فيقال كان مطيعا بإقامتها وأنه أزهق الحد نفسه؟ واحسبوا الضرب كان أدبا وتعزيرا، فما عذره في الماء البارد في الشتاء على إثر جلد شديد؟ ولقد بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده أو يدخل إليه، فقال لرجاء بن حيوة في بعض ما يدخل وما يخرج من شأنه: نشدتك الله أن تذكرني لهذا الأمر وتشير بي في هذا الشأن، فوالله ما لي عليه من طاقة! فقال له رجاء: قاتلك الله، ما أحرصك عليها! ولما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج قال له الوليد: مات الحجاج يا أبا حفص؟ فقال: وهل كان الحجاج إلا رجلا منا أهل البيت؟ وقال في خلافته: لولا بيعة في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة لجعلت هذا الأمر شورى بين صاحب الأعواص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الأشدق، وبين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبي بكر، وبين سالم بن عبد الله بن عمر. فما كان عليه من الضرر والحرج، وكان عليه من الوكف والنقص لو قال: بين علي بن عبد الله بن عباس، وعلي بن الحسين بن علي؟ على أنه لم يرد التيمي ولا العدوي، وإنما دبر الأمر للأموي. ولم يكن عنده أحد من هاشم يصلح للشورى، ثم دبر الأمر ليبايع لأخيه أبي بكر بن عبد العزيز من بعده حتى عوجل بالسم. وقدم عليه عبد الله بن حسن بن حسن، فلما رأى كماله وبيانه وعرف نسبه ومركبه وموضعه وكيف ذلك من قلوب المسلمين وفي صدور المؤمنين، لم يدعه يبيت بالشام ليلة واحدة، وقال له: الحق بأهلك فإنك لم تغنمهم شيئا هو أنفس منك ولا أرد عليهم من حياتك، أخاف عليك طواعين الشام، وستلحقك الحوائج على ما تشتهي وتحب. وإنما كره أن يروه ويسمعوا كلامه فلعله أن يبذر في قلوبهم بذرا ويغرس في صدورهم غرسا. وكان أعظم خلق الله قولا بالجبر حتى يتجاوز الجهمية ويربي على كل ذي غاية صاحب شنعة، وكان يصنع في ذلك الكتب مع جهله بالكلام وقلة اختلافه إلى أهل النظر. وقال له شوذب الخارجي: لم لا تلعن رهطك وتذكر أباك إن كانوا عندك ظلمة فجرة؟ فقال عمر: متى عهدك بلعن فرعون؟ قال: ما لي به عهد. قال: أفيسعك أن تمسك عن لعن فرعون ولا يسعني أن أمسك عن لعن آبائي؟! فرأى أنه قد خصمه وقطع حجته، وكذلك يظن كل من قصر عن مقدار العالم وجاوز مقدار الجاهل! وأي شبه لفرعون بآل مروان وآل أبي سفيان؟ هؤلاء قوم لهم حزب وشيعة وناس كثير يدينون بتفضيلهم وقد اعتورتهم الشبه في أمرهم، وفرعون على خلاف ذلك وضده لا شيعة له ولا حزب ولا نسل ولا موالي ولا صنائع ولا في أمره شبهة! ثم إن عمر ظنين في أمر أهله فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم، وشوذب ليس بظنين في أمر فرعون، وليس الإمساك عن لعن فرعون والبراءة منه مما يعرفه الخوارج، فكيف استويا عنده؟! وشكا إليه رجل من رهطه دينا فادحا وعيالا كثيرا فاعتل عليه فقال له: هلا اعتللت على عبد الله بن الحسن؟ قال: ومتى شاورتك في أمري؟ قال: أومشيرا تراني؟ قال: وهل أعطيته إلا بعض حقه؟ قال: ولم قصرت عن كله؟! فأمر بإخراجه، وما زال إلى أن مات محروما منه. وكان عمال أهله على البلاد عماله وأصحابه. والذي حسن أمره وشبه على الأغبياء حاله أنه قام بعقب قوم قد بدلوا عامة شرائع الدين وسنن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان الناس قبله من الظلم والجور والتهاون بالإسلام في أمر صغر في جنبه ما عاينوا منه وألفوه عليه، فجعلوه بما نقص من تلك الأمور الفظيعة في عداد الأئمة الراشدين. وحسبك من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليا على منابرهم فلما نهى عمر عن ذلك عد محسنا. ويشهد لذلك قول كثير فيه:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف
بريا ولم تتبع مقالة مجرم
وهذا الشعر يدل على أن شتم علي قد كان لهم عادة حتى مدح من كف عنه. ولما ولي خالد بن عبد الله القسري مكة - وكان إذا خطب بها لعن عليا والحسن والحسين - قال عبيد الله بن كثير السهمي:
لعن الله من يسب عليا
Página desconocida