اعلم أن الملوك يقبلون من وزرائهم التبخيل، ويعدونه منهم شفقة ونظرا، ويحمدونهم عليه وإن كانوا أجوادا؛ فإن كنت مبخلا غششت صاحبك بفساد مروءته، وإن كنت مسخيا لم تأمن إضرار ذلك بمنزلتك عنده، فالرأي لك تصحيح النصيحة على وجهها، والتماس المخرج فيما تترك من تبخيل صاحبك، بأن لا يعرف منك فيما تدعوه إليه ميلا إلى شيء من هواك، ولا طلبا لغير ما ترجو أن يزينه وينفعه.
لا تكونن صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك، وعلى ألا تكتمهم سرك، ولا تستطلع ما كتموه وتخفي ما أطلعوك عليه من الناس كلهم، حتى تحمي نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم، والتلطف لحاجاتهم، والتثبيت لحجتهم، والتصديق لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءوا وترك الاستحسان لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن الستر لمساويهم، والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيدا، والمباعدة لمن باعدوا وإن كانوا أقرباء، والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتموا به، والحفظ له وإن ضيعوه، والذكر له وإن نسوه، والتخفيف عنهم لمؤنتك، والاحتمال لهم كل مؤنة، والرضا عنهم بالعفو، وقلة الرضا من نفسك لهم بالمجهود؛ فإن وجدت عنهم وعن صحبتهم غنى، فأغن عن ذلك نفسك واعتزله جهدك؛ فإن من يأخذ عملهم يحول بينه وبين لذة الدنيا وعمل الآخرة، ومن لا يأخذ بحقه يحتمل الفضيحة في الدنيا والوزر في الآخرة.
إنك لا تأمن أنفهم إن أعلمتهم، ولا عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمن غضبهم إن صدقتهم، ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم إن لزمتهم لم تأمن تبرمهم بك، وإن زايلتهم لم تأمن عقابهم.
إنك إن تستأمرهم حملت المؤنة عليهم، وإن قطعت الأمر دونهم لم تأمن فيه مخالفتهم، إنهم إن سخطوا عليك أهلكوك، وإن رضوا عنك تكلفت من رضاهم ما لا تطيق؛ فإن كنت حافظا إن بلوك، جلدا إن قربوك، أمينا إن ائتمنوك، تشكرهم ولا تكلفهم الشكر، بصيرا بأهوائهم، مؤثرا لمنافعهم، ذليلا إن ظلموك، راضيا إن أسخطوك، وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر كل الحذر.
باب الصديق
ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، ولعدوك عدلك، واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد.
إن سمعت من صاحبك كلاما أو رأيا يعجبك، فلا تنتحله تزينا به عند الناس واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته وتنسبه إلى صاحبه.
واعلم أن انتحالك ذاك سخطة لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عارا؛ فإن بلغ ذلك بك أن تشير برأي الرجل وتتكلم بكلامه وهو يسمع، جمعت مع الظلم قلة الحياء، وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس، ومن تمام حسن الخلق والأدب أن تسخو نفسك لأخيك، بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه وتزينه مع ذلك ما استطعت.
لا يكونن من خلقك أن تبتدئ حديثا ثم تقطعه، وتقول: سوف، كأنك روأت فيه بعد ابتدائه، وليكن ترويك فيه قبل التفوه؛ فإن احتجان الحديث بعد افتتاحه سخف.
اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع؛ فإنه ليس في كل حين يحسن كل الصواب، وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع؛ فإن أخطأك ذلك أدخلت المحنة على علمك، حتى تأتي به إن أتيت به في غير موضعه، وهو لا بهاء ولا طلاوة له.
Página desconocida