السبب الذي يدرك به العاجز حاجته، هو الذي يحول بين الحازم وبين طلبته.
إن أهل العقل والكرم يبتغون إلى كل معروف وصلة وسبيلا، والمودة بين الأخيار سريع اتصالها بطيء انقطاعها، ومثل ذلك مثل كوب الذهب الذي هو بطيء الانكسار هين الإصلاح، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بطيء اتصالها، كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث، ثم لا يوصل له أبدا.
والكريم يمنح الرجل مودته عن لقاءة واحدة أو معرفة يوم، واللئيم لا يصل أحدا إلا عن رغبة أو رهبة، وإن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواصلون عليهما، ذات النفس وذات اليد، فأما المتبادلون ذات اليد فهم المتعاونون المستمتعون الذين يلتمس بعضهم الانتفاع ببعض متاجرة، ومكايلة.
ما التبع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال، ولا يظهر المروءة إلا المال، ولا الرأي والقوة إلا بالمال ، ومن لا إخوان له فلا أهل له، ومن لا أولاد له فلا ذكر له، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة، ومن لا مال له فلا شيء له، والفقر داعية إلى صاحبه مقت الناس، وهو مسلبة للعقل والمروءة، ومذهبة للعلم والأدب، ومعدن للتهمة، ومجمعة للبلايا، ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء، ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، ومن ذهب سروره مقت، ومن مقت أوذي، ومن أوذي حزن، ومن حزن ذهب عقله واستنكر حفظه وفهمه، ومن أصيب في عقله وفهمه وحفظه كان أكثر قوله وعمله فيما يكون عليه لا له، فإذا افتقر الرجل اتهمه من كان له مؤتمنا، وأساء به الظن، من كان يظن به حسنا؛ فإن أذنب غيره أظنوه، وإن كان للتهمة وسوء الظن موضعا. وليس خلة هي للغني مدح، إلا هي للفقير عيب.
فإن كان شجاعا سمي أهوج، وإن كان جوادا سمي مفسدا، وإن كان حليما سمي ضعيفا، وإن كان وقورا سمي بليدا، وإن كان لسنا سمي مهذارا، وإن كان صموتا سمي عييا.
وكان يقال: من ابتلي بمرض في جسده لا يفارقه أو بفراق الأحبة والإخوان أو بالغربة، حيث لا يعرف مبيتا ولا ميلا ولا يرجو إيابا، أو بفاقة تضطره إلى المسألة، فالحياة له موت، والموت له راحة.
وجدنا البلايا في الدنيا إنما يسوقها إلى أهلها الحرص والشره، فلا يزال صاحب الدنيا يتقلب في بلية وتعب؛ لأنه لا يزال بخلة الحرص والشره.
وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضا، وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييره.
وأفضل البر الرحمة، ورأس المودة الاسترسال، ورأس العقل المعرفة بما يكون وما لا يكون، وطيب النفس حسن الانصراف عما لا سبيل إليه. وليس في الدنيا سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا فيها غم يعدل غم فقدهم.
لا يتم حسن الكلام إلا بحسن العمل؛ كالمريض الذي قد علم دواء نفسه، فإذا هو لم يتداو به لم يغنه علمه ، والرجل ذو المروءة قد يكرم على غير مال، كالأسد الذي يهاب وإن كان عقيرا، والرجل الذي لا مروءة له يهان، وإن كثر ماله، كالكلب الذي يهون على الناس، وإن طوق وخلخل.
Página desconocida