بالحديبية: لقد وردت على النجاشي وكسرى وقيصر ورأيت جندهم وأتباعهم، فما رأيت أطوع ولا أوقر ولا أهيب من أصحاب محمد لمحمد هم حوله، وكأن الطير على رءوسهم؛ فإن أشار بأمر بادروا إليه، وإن توضأ اقتسموا وضوءه، وإن تنخم دلكوا بالنخامة وجوههم ولحاهم وجلودهم. وكانوا له بعد موته أطوع منهم في حياته، حتى لقد قال لبعض أصحابه: لا تسبوا أصحاب محمد؛ فإنهم أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف أسيافهم.
فتأمل كيف استفتح دعوته وهو ضعيف وحده بأن هذا سيكون، فرآه العدو والولي وما كان مثله في ذلك إلا مثل من قال هذه الهباءة تعظم وتصير جبلا يغطي الأرض كلها، ثم أنذر الناس بها في حال ضعفها، وجاء
صلى الله عليه وسلم
يوما ليدخل الكعبة، فدفعه عثمان بن طلحة العبدري . فقال: لا تفعل يا عثمان فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت. فقال: لقد ذلت يومئذ قريش وقلت. قال: بل كثرت وعزت.
وأنا أستعين بعصمة الله وتوفيقه، وأجعلهما معينتي على دفع شهواتي، وأشكو إليه عكوفي على الأماني، وأسأله فهما لمواعظ عبر الدنيا، فقد عميت عن كلوم غيرها، بما جشم على خواطري من الشعف، ولست أجد مني منصفا لي منها، ولا حاجز لرغبتي فيها عنها، وأين ودائع العقول وخزائن الأفهام يا أولي الأبصار؟ صفحنا عن مساوي الدنيا إغماضا لعاجل موفق التنغيص، وترمي إليه يد الزوال وتكمن له الآفات، قال كثير:
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
وأقول على مذهب كثير: يا دنيا في كل لحظة لطرفي منك عبرة، وفي كل فكرة لي منك حسرة، يا مرنقة الصفا ويا ناقصة عهد الوفا، ما وفق لحظة من عرج نحوك، ولا سعد من آثر المقام على حسن الظن بك، هيهات يا معشر أبناء الدنيا لكم في الظاهر اسم الغنى وفي الباطن أهل التقلل، لهم نفس هذا المعنى، كم من يوم لي أغر كثيرا لأهله! قد أصحت سماؤه، وامتد على ظله تمدني ساعاته بالمنى، ويضحك لي بها عن كل ما أهوى، حتى إذا اتصل بكل أسبابي وامتزج سروره بفرحي وروحي وأترابي، نفست علي به الدنيا، فسعت بالتشتيت إلى ألفته والنقص إلى مدته، فكسفت بهجته كسوفا وأرهقت نضرته وحشة الفراق، وقطعتنا فرقا في الآفاق، بعد أن كنا كالأعضاء المؤتلفة، والأغصان اللدنة المتعطفة، واحسرتى في يوم يجمع شرتي كفن ولحد!
ضيعت ما لا بد منه
بالذي لي منه بد
Página desconocida