واعلم يا أخي بأن أكثر الصنائع لا بد من استعمال النار فيها، وكل صانع استعمل النار في صناعته فلأحد أسباب ثلاثة، إما في موضوعه كالحدادين والصفارين والزجاجين، ومن يطبخ الجص والنورة وأمثالهم وغرضهم هو تليين الهيولى لقبول الصورة والأشكال، وذلك أنه لما كانت موضوعاتهم أحجارا صلبة لا تقبل الصورة والأشكال إلا بعد تليين بالنار، فإذا لانت أمكن الصانع أن يصنع الصنعة التي في فكره، فتصير الهيولى بعد قبولها تلك الصورة مصنوعة.
ومن الصناع من يستعمل النار كالجرارين والقدوريين والغضارين ومن يطبخ الآجر، وغرضهم في ذلك تقييد الصورة في الهيولى وثباتها فيها؛ لئلا تنسل منها الصورة بالعجلة؛ لأن من شأن الهيولى دفع الصورة عن ذاتها ورجوعها إلى حالها الأول جوهرا بسيطا لا تركيب فيه ولا كمية ولا كيفية.
ومن الصناع من يستعمل النار في موضوعه ومصنوعه كالطباخين والشوائين والخبازين وأمثالهم، وغرضهم تتميمها وتنضيجها ليتم الانتفاع بها.
(5) فصل في مراتب الصناعات
واعلم يا أخي بأن من هذه الصنائع ما هي بالقصد الأول دعت الضرورة إليها، ومنها ما هي تابعة لها وخادمة، ومنها ما هي متممة لها ومكملة، ومن الصنائع ما هي جمال وزينة، فأما التي بالقصد الأول فثلاثة، وهي الحراثة والحياكة والبناء، وأما سائرها فتابعة وخادمة ومتممة؛ وذلك أن الإنسان لما خلق رقيق الجلد عريانا من الشعر والصوف والوبر والصدف والريش، وما هو موجود لسائر الحيوان دعته الضرورة إلى اتخاذ اللباس بصناعة الحياكة، ولما كانت الحياكة لا تتم إلا بصناعة الغزل وصناعة الغزل لا تتم إلا بصناعة الحلج؛ فصارت هذه الثلاثة تابعة لها وخادمة.
وأيضا لما كان اللباس لا يتم إلا بالحياكة حسب صارت صناعة الخياطة والقصارة والرفو والطرز متممة لها ومكملة، وأيضا لما خلق الإنسان محتاجا إلى القوت والغذاء، والقوت والغذاء لا يكونان إلا من حب النبات وثمر الشجر دعت الضرورة إلى صناعة الحراثة والغرس، ولما كانت صناعة الحراثة والغرس محتاجة إلى إثارة الأرض وحفر الأنهار، ولا يتم هذا إلا بالمساحي والفدن وما شاكلها، والمساحي والفدن لا تكون إلا بصناعة النجارة والحدادة؛ دعت الضرورة إلى اتخاذهما، وصناعة الحديد محتاجة إلى صناعة المعدن وإلى صنائع أخرى، فصارت كلها تابعة وخادمة لصناعة الحراثة والغرس.
ولما كان حب الزرع وثمر الشجر يحتاج إلى الدق والطحن؛ دعت الضرورة إلى اتخاذ صناعة الطحن والعصر، ولما كان الطحن لا يتم الغذاء به إلا بعد الخبز دعت الضرورة إلى صناعة الخبز والطبخ، وكل واحد منهما محتاج إلى صناعة أخرى متممة له وخادمة، وأيضا لما كان الإنسان محتاجا إلى ما يكنه من الحر والبرد، والتحرز من السباع وتحصين القوت؛ دعته الضرورة إلى صناعة البناء، وصناعة البناء محتاجة أيضا إلى صناعة النجارة والحدادة، وكل واحدة منهما محتاجة إلى صناعة أخرى معينة أو متممة بعضها لبعض.
وأما صناعة الزينة والجمال فهي كصناعة الديباج والحرير وصناعة العطر وما شاكلها، والصنائع كلها الحذق فيها هو تحصيل الصور في الهيولى وتتميمها وتكميلها؛ لينال الانتفاع بها في الحياة الدنيا حسب.
واعلم يا أخي أن الناس كلهم صناع وتجار أغنياء وفقراء، فالصناع هم الذين يعملون بأبدانهم وأدواتهم في مصنوعاتهم الصور والنقوش والأصباغ والأشكال، وغرضهم طلب العوض عن مصنوعاتهم لصلاح معيشة الحياة الدنيا، والتجار هم الذين يتبايعون بالأخذ والإعطاء، وغرضهم طلب الزيادة فيما يأخذونه على ما يعطون، والأغنياء هم الذين يملكون هذه الأجسام المصنوعة الطبيعية والصناعية، وغرضهم في جمعها وحفظها مخافة الفقر، والفقراء هم المحتاجون إليها وطلبهم الغنى.
واعلم أن الغرض في كون الناس أكثرهم فقراء، وخوف الأغنياء من الفقر؛ هو الحث لهم على الاجتهاد في اتخاذ الصنائع والثبوت فيها والتجارات، والغرض فيها جميعا هو إصلاح الحاجات وإيصالها إلى المحتاجين، والغرض في ذلك متاع لهم إلى حين، والغرض في تمتعهم إلى حين هو أن تتمم النفس بالمعارف الحقيقية والأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية، والغرض في تتميم النفس التمكين لها من الصعود إلى ملكوت السماء، والغرض في صعودها إلى ملكوت السماء هو النجاة من بحر الهيولى وأسر الطبيعة والخروج من هاوية عالم الكون والفساد إلى فسحة عالم الأرواح والمكث هناك فرحا مسرورا ملتذا مخلدا أبدا.
Página desconocida