120

Epístolas de los Hermanos de la Pureza

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

Géneros

ومن فضيلة النطق أيضا أنه كاد أن يكون مطابقا للموجودات كلها كمطابقة العدد للمعدودات، والدليل على ذلك كثرة اللغات واختلاف الأقاويل وفنون تصاريف الكلام، مما لا يبلغ أحد كنه معرفتها إلا الله - عز وجل - فنريد أن نذكر من ذلك طرفا شبه المدخل ليقرب على المتعلمين، وليسهل على الناظرين في علم المنطق فهم معانيها.

(1) فصل في اشتقاق المنطق وانقسام النطق إلى قسمين

اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن المنطق مشتق من نطق ينطق نطقا، والنطق فعل من أفعال النفس الإنسانية، وهذا الفعل نوعان: فكري ولفظي، فالنطق اللفظي هو أمر جسماني محسوس، والنطق الفكري أمر روحاني معقول، وذلك أن النطق اللفظي إنما هو أصوات مسموعة لها هجاء وهي تظهر من اللسان الذي هو عضو من الجسد، وتمر إلى المسامع من الآذان التي هي أعضاء من أجساد أخر، وأن النظر في هذا المنطق والبحث عنه والكلام على كيفية تصاريفه وما يدل عليه من المعاني يسمى علم المنطق اللغوي، وأما النطق الفكري الذي هو أمر روحاني معقول، فهو تصور النفس معاني الأشياء في ذاتها، ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، وتمييزها لها في فكرها، وبهذا النطق يحد الإنسان، فيقال: إنه حي ناطق مائت، فنطق الإنسان وحياته من قبل النفس، وموته من قبل الجسد؛ لأن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والجسد جميعا.

واعلم أن النظر في هذا النطق والبحث عنه ومعرفة كيفية إدراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس، وكيفية انقداح المعاني في فكرها من جهة العقل الذي يسمى الوحي والإلهام، وعبارتها عنها بألفاظ بأي لغة كانت، يسمى علم المنطق الفلسفي.

ولما كان النطق اللفظي أمرا جسمانيا ظاهرا جليا محسوسا وضع بين الناس لكي ما يعبر به كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس السائلين عنه والمخاطبين له؛ احتجنا إلى أن نذكر من هذا المنطق طرفا شبه المدخل ليقرب على المتعلمين فهم علم المنطق الفلسفي، ويسهل تأمله على الناظرين، فنقول أيضا: إنه لما كان النطق اللفظي هو ألفاظ مؤلفة من الحروف المعجمة؛ احتجنا أن نذكر الحروف أولا، فنقول: إن الحروف ثلاثة أنواع: فكرية ولفظية وخطية، فالفكرية هي صورة روحانية في أفكار النفوس مصورة في جواهرها قبل إخراجها معانيها بالألفاظ، والحروف اللفظية هي أصوات محمولة في الهواء، فمدركة بطرق الأذنين بالقوة السامعة، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس، والخطية هي نقوش خطت بالأقلام في وجوه الألواح وبطون الطوامير مدركة بالقوة الباصرة بطريق العينين.

واعلم أن الحروف الخطية إنما وضعت سمات ليستدل بها على الحروف اللفظية، والحروف اللفظية وضعت سمات ليستدل بها على الحروف الفكرية، والحروف الفكرية هي الأصل.

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وسنبين ماهيتها في فصل آخر.

واعلم أن الحروف اللفظية إنما هي أصوات تحدث في الحلقوم والحنك، وبين اللسان والشفتين عند خروج النفس من الرئة بعد ترويحها الحرارة الغريزية التي هي في القلب وهي ثمانية وعشرون حرفا في اللغة العربية، وأما سائر اللغات فربما تزيد وتنقص، وقد بينا علة ذلك في رسالة اختلاف اللغات، واعلم أن الحروف إذا ألفت صارت ألفاظا، والألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، والأسماء إذا ترادفت صارت كلاما، والكلمات إذا اتسقت صارت أقاويل والأقاويل نوعان: موزون ونثر، فالموزون كالشعر والرجز والقوافي، والنثر نوعان، فمنه فصاحة وبلاغة، ومنه مخاطبات ومحاورات، والخطاب نوعان، فمنه ما يتكلم به جمهور الناس فيما بينهم في طلب حاجاتهم بلا احتجاج ولا خصومة، ومنه ما يتكلمون به في دعاويهم وخصوماتهم باحتجاج وبراهين، والدعاوى والخصومات نوعان: إما في أمور الدنيا، وإما في أمور الديانات والمذاهب والعلوم.

ولما كانت البراهين على صحة الدعاوى التي في أمور الدنيا لا تكون إلا بالشهود والعقود والصكوك، صارت البراهين أيضا على صحة الدعاوى في أمور الديانات والمذاهب والعلوم لا تكون إلا باستشهاد ما في الكتب الإلهية والإخبار عن أصحاب الشرائع أو إجماع الخصوم، أو شهادة العقول بالقياس الصحيح الذي هو ميزان الحق.

Página desconocida