110

Epístolas de los Hermanos de la Pureza

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

Géneros

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الخلق كلهم عبيد الله وأهل طاعته طوعا أو كرها، ولكن منهم خاص وعام وما بينهما طبقات متفاوتة الدرجات، فأول الخواص هم العقلاء الذين توجه نحوهم الخطاب بالأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم والترغيب والترهيب، ثم إن الله تعالى - بواجب حكمته - رفع قدر المؤمنين على سائر العقلاء وهم المقرون والقابلون أوامره ونواهيه، المنقادون لطاعته فيما رسم لهم في أحكام النواميس وموجبات العقول، التاركون لما نهوا عنه سرا وعلانية.

ثم إن الله سبحانه رفع من المؤمنين المقرين المخلصين، واصطفى منهم طائفة، وفضلهم على غيرهم، وهم العلماء والفقهاء الذين اجتهدوا في تعلم أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده وشرائطه بواجبها، كما ذكر الله تعالى بقوله: @QUR09 يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.

ثم إن الله - جل اسمه - رفع من جملة العلماء طائفة، وهم التائبون العابدون الصالحون الورعون المتقون المحسنون بما استحقوا باجتهادهم من القيام بواجبات أحكام الناموس درجات، كما ذكر الله - عز وجل - بقوله: @QUR013 أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه الآية، وقال تعالى: @QUR012 قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب، وقال تعالى: @QUR04 تتجافى جنوبهم عن المضاجع الآية، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر هؤلاء ومدحهم وحسن الثناء عليهم.

ثم إن الله - جل ثناؤه - رفع من هؤلاء طائفة في الدرجات وهم الزاهدون في الدنيا، العارفون عيوبها، الراغبون في الآخرة، المتحققون بها، الراسخون في علمها، وهم أولياء الله المخلصون، وعباده المؤمنون، وصفوته من خلقه أجمعين، الذين سماهم الباري تعالى: أولي الألباب وأولي الأبصار وأولي النهى، وأخلصهم بخالصة ذكرى الدار، التي هي الحيوان، وإليهم أشار بقوله سبحانه: @QUR05 وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار، وقوله: @QUR06 إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وآيات كثيرة في القرآن، في ذكرهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم.

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن للمؤمنين فضائل كثيرة من محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال وفضائل الأعمال وجميل الفعال، لا يمكن أن تجمع كلها في شخص واحد، بل في عدة أشخاص فمقل ومكثر، ولكن ليس بعد العلم والإيمان خصلة للمؤمنين ولا خلق من أخلاق الكرام أشرف ولا أجل ولا أفضل من الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وذلك أن الزهد في الدنيا إنما هو ترك فضول متاع الحياة الدنيا وترك طلب شهواتها والرضا بالقليل والقناعة باليسير من الذي لا بد منه، وهذه خصلة تتبعها خصال كثيرة من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال وجميل الأفعال.

وضد الزهد هو الرغبة في الدنيا والحرص في طلب شهواتها، وهي خصلة تتبعها أخلاق ردية وأفعال قبيحة وأعمال سيئة - كما تقدم ذكره - وذلك أن من خصال الزهاد وشعارهم قلة الأكل وترك الشهوات، وفي قلة الأكل وترك الشهوات خصال محمودة كثيرة، ومناقب حسنة جميلة، فمنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أجيعوا أنفسكم تفرح بكم سكان السماء»، ومنها أن الإنسان يكون أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأجلى قلبا وأقل نوما وأصدق رؤيا وأخف نفسا وأحد بصرا وألطف فكرا وأصغى سمعا وأصح حسا وأثبت رأيا وأقبل للعلم وأسرع حركة وأسلم طبيعة وأقل مؤنة وأوسع مواساة وأكرم خلقا وأثبت صحبة وأحلى في القلوب.

وقلة الأكل إذا ساعدته القناعة كان مزرعة الفكر وينبوع الحكمة وحياة الفطنة ومصباح القلب وطبيب البدن وقاتل الشهوات وهادم الوسواس ومنزل الإلهام، وعصمة من شر النفس وأمانا من شدة الحساب، والشكر له تابع، وكفر النعمة عنه زائل.

(14) فصل في آفات الشبع وكثرة الأكل وخصال الزهاد

يروى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد ذهاب نبيها صلى الله عليه وسلم الشبع وكثرته؛ وذلك أن القوم إذا شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، وقست قلوبهم، وجمحت نفوسهم، واشتدت شهواتهم.

ومن آفات الشبع وكثرة الأكل عفونة القلب، ومرض الأجساد، وذهاب البهاء، ونسيان الرب، وعمى القلوب، وهزال الروح، وسلاح الشياطين، وجراحة الدين، وذهاب اليقين، ونسيان العلم، ونقصان العقل، وعداوة الحكمة، وذهاب السخاء، وزيادة البخل، ومزرعة إبليس، وترك الأدب، وركوب المعاصي، واحتقار الفقراء، وثقل النفس، وإدرار الشهوات، وزيادة الجهل، وكثرة فضول القول، ويزيد في حب الدنيا، وينقص الخوف، ويكثر الضحك، ويحبب العيش، وينسي ذكر الموت، ويهدم العبادة، ويقل الإخلاص، ويذهب بالحياء، ويهيج عادة السوء، ويطيل النوم، ويكثر الغفلة، ويسبب تفريق الأصحاب، ويحرج الأعمال، ويكدر الصفو، ويذهب الحلاوة من القلوب، ويحبب الشيطان، ويبغض الرحمن، ويكثر الغم يوم الحساب، ويقرب من النيران، ويبعد من الجنان؛ لأنه سبب المعاصي، ويحرك الكبر، ويثبت الحسد، ويقل الشكر، ويذهب الصبر، فهذه خمسون خصلة تهيج من الشبع وكثرة الأكل.

Página desconocida