فاطمأنت ولكنها تنهدت وقالت: «اعلم يا سيدي أن والدي يصنع السلاح ويبيعه في الفسطاط وقد ربيت وأنا أسمعه يتشيع للإمام علي فانغرس حب هذا الإمام في قلبي وما أنا في حاجة إلى امتداح والدي له وهو ابن عم الرسول وصهره ولكنني ذكرت لك امتداحه لأذكر لك التغير العجيب الذي طرأ عليه. «فما زلنا ندعو لعلي بالنصر حتى كانت واقعة صفين منذ بضع سنين فرأيت في والدي فتورا من هذا القبيل ولكنه لم يذكر لنا شيئا صريحا بهذا الشأن. على أني كثيرا ما كنت أراه يختلي بجار لنا من بين مراد كان يعلم الناس القرآن وكنت أحسبه من أهل التقوى ... (قالت ذلك وتنهدت) ولكنني وجدته واأسفاه من أهل العداء. ومازالا يتساران في أمر هذا العداء ولا يجرآن على التظاهر به لأن مصر كانت لاتزال في حوزة الإمام علي وعاملها محمد بن أبي بكر . فلما جاءنا ابن العاص بخيله ورجله وحارب دعاة علي فقتل ابن أبي بكر رحمه الله قتله لم يسبق لها مثيل في الإسلام استقام الأمر للأمويين فجاهر والدي بمعاداة علي وكان جارنا المرادي يزيده كرها له. فعلمت أنهما تشيعا للخوارج فظللت مع ذلك صابرة كاظمة إذ لا سبيل لي إلى شيء أعمله وأنا فتاة ضعيفة كما ترى. وكان والدي يظنني على دعوته. ففي ذات يوم جاءنا ذلك المرادي خاطبا ووافقه والدي أن أكون خطيبة له فلم أجب لا حسنا ولا قبيحا خوفا من إكراهي على الزيجة. ولكنني صممت في باطن سري أني إذا تحققت عزمه على الزواج فررت وتركته ومازلت أماطل في كتابة العقد إلى الآن».
الفصل التاسع والثلاثون
عبد الرحمن بن ملجم
وكانت في أثناء كلامها عن الزوج قد أطرقت حياء فلما بلغت إلى هذا الحد رأت سعيدا مصغيا إلى حديثها بكليته وهي تعلم أنه إنما يشتاق إلى آخر الحديث أكثر مما إلى أوله فخافت أن يمل فقالت: «ولا أطيل عليك الحديث قبل أن أصل إلى جوهره فأقول إن ذلك كله احتملته بالصبر ثم علمت أن المرادي خرج إلى مكة فظننته يلتمس الحج ووددت أن لا يعود ولكنني ما لبثت أن رأيته عائدا».
قالت ذلك وتنهدت وسعيد يتطاول لسماع ما تقول وقد دهش لغرابة الحديث فقالت: «عاد ذلك المرادي بمهمة جديدة يا ليتني مت قبل أن سمعت خبرها ... ولكنني إذا لم أجد من يتحمل المشقة في ملافاتها تلافيتها بنفسي.. جاءنا هذا المرادي ثاني يوم وصوله الفسطاط فاختلى بوالدي الليل كله يتكلمان وأنا لا أعلم ما دار عليه حديثهما. ولكنني علمت بعد ذلك أنه أوصى والدي أن يصنع له سيفا ماضيا أنفق عليه ألف درهم وقضى مئة يوم وهو يشحذه فلم أفهم معنى هذا الاستعداد ولا اهتممت به وبعد أن شحذه كلف والدي فسقاه السم. وقد علمت أنه اتفق على سقايته ألف درهم أيضا
1 ... فويل لجسم يجرحه هذا السيف لو جرحا خفيفا».
فمل سعيد ولم يعد يستطيع صبرا على التصريح باسم ذلك الرجل والإفصاح عن غرضه بسقاية السيف وهو لا يشك أنه المؤامر على قتل الإمام علي. وكان قد صبر نفسه حتى يسمع ذلك من فم الفتاة ولكنه مل الانتظار فسألها قائلا: «وما هو اسم هذا الرجل».
فقالت: إن اسمه عبد الرحمن بن ملجم المرادي.
فلم يذكر أنه يعرفه أما خولة فتنهدت وقالت: «فلما رأيت منه هذا الاستعداد وهو كاتم خبره عني عمدت إلى الحيلة فجاءني في صباح أمس يودع والدي وقد عزم على الكوفة فقلت في نفسي سيذهب الرجل ولا أدري السر فتظاهرت بإعجابي بشجاعته وإقدامه وأطريت على غيرته على الإسلام ونحو ذلك وسألته أن يريني السيف لأتأمل فرنده فجاء به وأوصاني أن أتقي حده لأن جرحه يميت حالا فسللته بحذر كلي فإذا هو يلمع لمعانا تقشعر منه الأبدان فارتعد جسمي ولكنني أظهرت الجلد وقلت: «أراك أنفقت مالا كثيرا على صقله وما الفائدة من هذا اللمعان».
فضحك مستخفا وقال: أتظنين أني انفقت كل هذا المال على مجرد صقله.
Página desconocida