El hombre que no puede ser movido
الرجل الذي لا يمكن تحريكه
Géneros
كنت قد عشت أغلب ما كتب لي أن أعيشه وأنا أبحث عن حقيقة الوجود، عشت غريبا، وكثيرا ما ضحك الناس لغرابتي هذه - هذا يفسر لم يضحك علي الجميع في القاعة - اعتقدوا أنني مجنون، وأنه لم يتوجب علي أن أدرس، فحسبهم سبب جنوني هو دراستي، مع أنهم أحبوا تلك الصفة بي، حتى إن والدتي كانت قد اعتقدت يوما أنني شخص آخر، خاف الجميع مني، فتعجبوا لوجود شخص مثلي بهذا العالم، ومرضت والدتي بسببي، حتى إن والدي استسلم لشرب الخمر بسبب ما فعلت، وأنهى ما تبقى من حياته وهو يطارد جرعات النبيذ يملأ بها روحه المنتشية، ولم أتحدث يوما إلا وأصبت الناس بالخوف لما أتحدث به من غرابة وجنون، وقد درست الطب بأكبر الكليات بباريس، وفعلت ذلك لسبب واحد، إلا أن امتهاني للطب لم يمنحهم إلا سببا آخر ليعتقدوا بجنوني، وكانوا محقين. ربما كنت مجنونا، فقد تحديت القدر في أغلب الأحيان، وكان الطب مجرد ورقة بيدي لإيقاف ألعابه الشريرة، كان يقتل مزيدا من البشر، وكنت أعمل على إنقاذ ما تقدر لي أن أنقذه - ربما كلمة «تقدر» تجعل الفكرة خاطئة، ربما توجب أن أقول «ما كان باستطاعتي إنقاذه.» فبهذا الشكل أكون قد انفردت بذلك دون تدخل من القدر - وفكرت؛ ربما هو كان يسمح لي بأن أفعل ذلك، ففي الأخير كان بإمكانه أن يجعلني أتوقف عن التنفس فينهي بذلك معركتي معه، لكنه لم يفعل، لأنها لم تكن معركة في نظره، كان يستمتع بعجرفتي البشرية، بلعبي معه، كنت أشبه بطفل صغير يحاول الإمساك بإصبع والده، أو أشبه بقط صغير يطارد خيطا يحركه رجل بالغ. والأهم أن القدر كان يود أن يعلمني درسا في الوجود، فقد كنت أعتقد سابقا أنني الوحيد من بلغ درجة الحكمة العليا؛ أنني أفهم البشر وأفهم ما فوق ذلك، أنني أقدر الظروف أشد التقدير فلا يصيبني منها إلا ما درسته، وأفسر القصص أحسن التفسير فلا يخفى علي سبب الأحداث أو غايتها من الحدوث؛ لذا أراد القدر أن يعلمني درسا، درسا حول القدر نفسه، أراد أن يظهر لي أنه مع قدرة الخلق التي يملكها تكمن مسئولية كبيرة، وأن تلك المسئولية لهي نتاج علم وفير يملكه، ويكمن فوق ذلك العلم حكمة عظيمة؛ أن خلف البشر قصة وأن خلف كل خطوة هدفا مقدسا وأن ما قبلها سبب علوي لن يفهمه عامة البشر؛ أن الفراشة قد تحرك الرياح، أن الرياح قد تشكل الأزهار، أن الأزهار قد تنشئ الفراشة، وأن الثلاثة منفردون بوجودهم فلا يندثر أحد باندثار الآخر - كان ذلك أشبه بتناقض عجيب - ولهذا أراد أن يعلمني درسا حول الوجود وعن حقيقة ذلك.
وقد فعل ذلك في نهاية المطاف؛ أقحمني في قصة غريبة، لم أضحك بعدها على غرابة القصة، بل ولم أضحك بعدها على غرابة أي شيء غريب، على عكس ما فعل الناس مع غرابتي. ربما هم فعلوا ذلك لأنهم يجهلون ماهيتي، مثلما جهلت سابقا ماهية القدر، لكنني محظوظ بما يكفي، إن غرابتي لجزء من غرابة تلك القصة، قصة أوجدها لي قدر غريب ، والبقية من البشر يجهلون ذلك، حتى أولئك الذين شاركوني جزءا منها، كل من ضحك علي يجهل ذلك. أنا لا ألومهم؛ فالبشر يجهلون البشر، ولا يعلمون مثلما أعلم، أن خلف كل إنسان قصة، وأن خلف كل قصة قدرا، وأن خلف كل قدر إنسانا؛ إنسانا يؤمن بذلك القدر، أو إنسانا أشبه بي، رجلا لا يمكن تحريكه.
صيف 1939م «كيف يمكنك أن تقتل إنسانا أنت تحبه؟»
كانت هذه آخر كلمات زوجتي قبل أن ننفصل، لم أفهم معناها يومها فكبريائي كانت تمنعني من فهم أي شيء، ثم إنني طبيب ولم أكن أومن سوى بما يؤكده العلم أو ينفيه، مع أنني أتناقض مع نفسي في كثير من الأحيان، أيمكن أن أكذب كل الظواهر وأصدق وجود قوة أسميها قدرا، لكنني صدقت ما أفعل، ولم يرتق تفكيري إلى الفلسفة يوما، وما كنت أفهم الرموز وإن تجلت من حولي، كنت تطبيقيا جدا، ولم أكن أعرف ما تعني بقولها ذلك، فقد كان يجب أن ننفصل، لأنني رأيت أنه يجب أن نفعل، حتى بعد زواج دام 18 سنة كلل بفتاة جميلة أشبه بوالدتها، إلا أنني رجل هو سيد لقراره، وكان قراري أن أطلق زوجتي، حتى وإن لم يكن السبب منطقيا بالنسبة لها، لكنه كان يجب أن أطلقها ففعلت. كثيرا ما اعتقدت أنني تزوجتها لأنها جميلة، وفي كثير من الأحيان كان يخالجني شعور بأنني تزوجتها لثروتها التي سترثها عن عائلتها في فرنسا، ربما فعلت ذلك لأنني أحببتها، لكنني كنت متأكدا من حبي لها، أجل إنه الشيء الوحيد الذي لن أنكره، وقد أحببت زوجتي لأنها كانت فتاة مغامرة صبيانية المعشر، كنت أكبر في كل يوم وكانت تستقر وكأنها محصنة أمام الزمن، كانت تحب كل شيء يتعلق بالحياة، أو حتى بالموت، أذكر أنها كانت تضحكني عندما تخبرني أن الموت حياة أخرى، عادة كانت تفعل ذلك حينما تقبلني، تخبرني أن هذه القبلة هي إكسير الحياة، تملأ بها نفسها استعدادا لحياة أخرى، حينما ستتقمص شخصا آخر، وضحكت لأنني اعتقدت أن تفكيرها ليس له أساس في العلم ؛ كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ الموت هو التوقف؛ التوقف الأبدي ولا عودة بعد ذلك التوقف. وأجمل ما فيها هو استمتاعها بكونها حرة في طريقة عيشها للأشياء وللأحداث وللزمن كذلك، فقد كانت تفتخر بكل تلك المغامرات التي خاضتها وتسترجع كل تلك الذكريات، تخبرني أن الذكرى نوع من الخلود، وهذا ما أعجبني فيها أو ربما هذا ما جعلني أتزوجها؛ فقد كنت أكره أن أتزوج فتاة أشبه بصخرة لا حياة فيها، أردت حقا أن تجعلني أستمتع بالحياة مثلها، أن أكون غبيا لبعض من الوقت وطائشا إن استلزم الأمر، لكنها لم تفعل، فبعد أن تأكدت أنها ملكت كل ما في من روح وزمن وشعور، توقفت عن عيش الحياة من أجلها، بل انشغلت بحبها لي فقط. تخلت عن حياتها تلك، وانشغلت فقط بي، 18سنة من المكوث إلى جانبي جعلني أنسى الفتاة التي أحببتها سابقا، وجعل زوجتي مجرد جثة بشرية تحبني وتقدسني. لقد أخمدت النار التي بداخلها، وكان ذلك بسببي، كنت أود أن أصير شبيها بها، لكنها تحولت إلى نسخة مني، وأحسست أنني أصبحت الشخص الوحيد الذي يمنحها سببا في البقاء على قيد الحياة، لهذا كرهتها. تخلت عن مبادئها من أجلي، قتلت الفتاة المغامرة بداخلها من أجلي.
وما دفعني الآن إلى التفكير بزوجتي هو أنني كنت أجلس بأحد المقاهي في هذا اليوم الحار، وأيام الصيف بالجزائر حارة جدا، كان كل شيء يذوب وسط هذا الزحام تحت هذه الشمس، لم أولد بهذا المكان مع أنني أمضيت جزءا من طفولتي هنا حينما كنا نزور ممتلكات والدي «أراضي شيلون» لذا كان من الصعب علي أن أتحمله، كنت أرتدي قميصا أبيض وقد اخترت واحدا أوسع لمنح جسدي مزيدا من التهوية، ووضعت قبعة على رأسي، ونظارة شمسية، حتى إنني جلست إلى طاولة بالقرب من شجرة توت، فقد كان يجب أن أحظى ببعض الظلال، حقيقة ما كان يجب أن أخرج بيوم كهذا، لكن المهمة تستوجب خروجي، وكانت حقيبتي اليدوية تذكرني في كل لحظة بتلك المهمة.
ومع كل رشفة من فنجان القهوة كنت أتذكر زوجتي ، لا أعرف لم أتذكرها الآن، فهي على الأرجح بمكان ما بالشيلي محاولة إنقاذ قطيع من البقر، أو هي تساعد بعض الرهبان بالتبت. هي عادت إلى حياتها السابقة، فقد طلبت مني قبل أن تغادر أن أحتفظ بابنتنا صوفيا - اسم جدتها من والدتها - لثمانية عشر شهرا، ريثما تعود. أخبرتني أيضا أنها بحاجة إلى مغامرة كي تنسى ما حدث بيننا وأنها تتمنى أن أتغير حينما تعود؛ فهي تود أن نبقى صديقين حتى بعد ما حدث؛ 18 سنة لن تذهب هباء بالنسبة لها، ربما هي قامت بالرحلة فقط لأنها أرادت منحي متسعا من الوقت للتفكير بما فعلته، لتأنيب الضمير الذي لا أملكه. لم يكن ذلك هروبا منها، هي جهدت في الحفاظ على العلاقة، ولا أنكر أنها أحبتني بشدة، إلا أن الخطأ كان خطئي، ليس لأنني أرى أن ما فعلته كان خطأ - ربما هي تعتقد ذلك - لكنني من قرر أن يتوقف عن كونه زوجا لها، وكان بعقلي شيء يخبرني أن ما في من روح لا يحتاج إلى الحب بالشكل الذي قدمته زوجتي لي، وببساطة أردتها أن تبقى على حالتها الأولى، أقصد قبل الزواج. أنا أعرف أن الحب هو كل شيء في حياة المرأة، لكنه جزء فقط في حياة الرجل، ولا يمكن أن يكون جزئي المخصص لها ليتطابق مع كلها الذي منحته لي. أحببتها أكثر من أي شيء آخر، لكنني لم أكن قصة حب لتمتلئ حياتي بكلام الحب، كنت نظرية من دون حل لها؛ رزمة من الأسئلة. وعلى خلاف زوجتي فقد كنت مجرد كيان فكري وفلسفي مليء بسائل الحياة، ولم يتحمل هذا الكيان تلك الرومانسية الزائدة، لذلك طلقتها وكان ذلك قبل ثلاثة أشهر، كنت لبقا وهي وافقت على ذلك، ثم استضفت ابنتنا معي، ستجول هي العالم بينما سأتكفل بتلك الفتاة الشقية، وتحت ضغط هذه الحرارة، ولأول مرة، ندمت على قراري بالتكفل بالفتاة، الفتاة التي ورثت كل شيء عن والدتها؛ ذلك الجمال وتلك العجرفة وحتى ذلك الشعور اللامتناهي للحياة البشرية، ولم ترث عني شيئا سوى شكل أنفي الذي أثار زوجتي في أول لقاء لنا، لكنني أعشق ابنتي؛ لذا ربما هي ضربة شمس، فأنا أحب ابنتي صوفيا كحبي لتلك الأفكار المترسبة بنواة عقلي الوجودي، أجل هي ضربة شمس فأنا أجلس هنا منذ 20 دقيقة في انتظار الباص وهو لم يأت بعد، لدي مهمة للانتهاء منها، شخص ما بحاجة إلي لأساعده، وسيارتي لدى الميكانيكي، وقد تأخر في إتمام العمل عليها على غير عادته مع السيارات، كان يجب أن أتحمل ذلك؛ أن أتحمل عدم إتمامه للعمل مع أنني دفعت مسبقا المال المتوجب علي دفعه، وتوجب أن أتحمل البقاء هنا لمدة أطول بسبب عدم قيام أي شخص على هذا الكوكب بدوره، فيجب أن أساعد تلك المرأة، امرأة عرفتها من قبل، بل عرفتها زوجتي إن صح القول، لم أكن أعرف أحدا هنا بالمعنى الحقيقي للمعرفة الشخصية، بل ولم أرد أن أعرف أحدا، كانت زوجتي تترك ابنتنا لدى تلك العجوز العربية، تتكفل بها ريثما نقضي حوائجنا، كانت أشبه بحاضنة لنا مقابل 5 فرنكات تدفعها زوجتي لها، مع سلة من البرتقال عادة، لم أكن أدفع فلسا آخر، فقد توجب على زوجتي أن تتكفل بابنتنا وليس عجوزا عربية لا تفقه آداب المائدة، لكن زوجتي كانت ترى شيئا في هذه العجوز، فلا أنكر أنها علمت ابنتنا ما لم يكن ليعلمه لها أي بشري، وأنا بشكل ما ممتن على ذلك، صنعت تلك العجوز من ابنتي إنسانا حقيقيا، مثلما صنع العرب والدي سابقا، وها أنا بعد 18 سنة أحاول إنقاذها، بعد أن اتصلت بي ابنتي تخبرني أنها بحالة خطرة، لم أكن أكره تلك العجوز، ولم أكن أحبها أيضا، لكنني كنت أحب إنقاذ البشر ومعالجتهم أو دفعهم للاستمرار في العيش، فلم تكن مشكلتي مع الناس يوما، بالرغم من أنني كنت غريبا عنهم، ولم أتصرف بود مع أي أحد، إلا أن مشكلتي كانت مع القدر وحده، هو كان سيدا علي، وعدوا لي في نفس الوقت، أما تلك العجوز فلسبب ما كان يجب أن أساعدها؛ على الأقل هي ساهمت في بلوغ ابنتي ما بلغته، لكن يبدو أن القدر يقضي على كل فرصي الآن، وهو على الأرجح قد يكون تسبب بحادث للباص، أو أنه دفع زوجتي لتسقط بطائرتها على الباص فيهزمني بذلك مرتين، فيقتل زوجتي ويتسبب في تعطلي عن اللحاق بالدقائق الأخيرة لأنفاس تلك العجوز، وهكذا أفقد بشريين بدل واحد. كانت تلك الأفكار الغريبة تتملكني، ما كان بمقدوري التوقف عن ربط الأمور السيئة بالقدر، حتى إنني نسيت كم الجمال الذي تسبب فيه من حولي، الجمال الذي يخفي خلفه بشاعة وجوده في حياة جميع الأحياء، وكنت من دون إرادة مني مؤمنا، مؤمنا بأنه يوجد قدر لما يحدث، لم أختر أن أومن به، حاربته طيلة الزمن الذي عشته، وكانت حربي تلك ومن دون قصد إيمانا به، فلا يمكن أن تحارب عدما، إلا إذا صدقت بوجوده، اعترفت بوجوده فحاربته؛ لذلك أنا مؤمن به، رغم أنه لم يتمكن يوما من شراء قناعاتي، حتى حينما كان يسهل علي الأمور أو حينما كان يمنحني حظا لم أكن لأملكه، ولو كان لي بالقدر صلة قوية كشأن جميع المؤمنين، لكنني لست كالبقية من المؤمنين، هو لن يشتري قناعاتي، لم يفعل ذلك من قبل، ولن يفعل يوما.
وجلست ارتشف قهوتي، كان يجب أن أرتاح قليلا، أن أزيح تلك الأفكار ببعض من القهوة المرة، ثم رأيت على بعد مني رجلا يتقدم بخطى متثاقلة، ينظر بعينيه الشاحبتين إلى كل مكان، وقد بدا أنه عاش في هذه الحياة حتى سئم فعل العيش، لم أتمكن من تقدير عمره، لكن جسده الهزيل ووجهه الأسود الذي أخفته التجاعيد، وحتى تلك المساحات الفارغة من الشعر أعلى رأسه، أظهرت أنه طاعن في السن، كان يتحرك ببطء شديد، وأذكر أنني كدت أقسم أن هذا الرجل ليس ببشري، أو أنه كذلك على غير ما يظهره للعالم، بشري تأخر كثيرا عن اكتشاف العالم، عن تقدير ما حوله من الموجودات، كان يجهل ما يرى، أو ... لحظة ... أو أنه يعي أفضل من أي شخص آخر ما يرى الآن. أجل هو يقدر ما يرى أفضل التقدير ويعلم حقيقة ماهية هاته الأشياء.
تقدم وهو يستدير نحو كل مكان، يستمتع برؤية كل شيء من حوله، وكأنه يبصر لأول مرة، لم يكن يعبأ بشيء مما يحصل، كان يعيش رؤية الأمور وكأنه سيفقدها للأبد، يتلذذ الثواني وهي تتعاقب لتذيقه ألوان الحياة، ألوانا اختصرها بقية البشر في الأبيض والأسود، وجعلوا الأبيض خيرا والأسود شرا، كان يرى ألوانا أخرى غير الخير والشر، كان يرى لون الأطفال، لون الغبار، ألوانا نسينا أنها موجودة، أنها هي الأحق ببناء عالمنا. لم يكن العالم يوما أسود وأبيض، لكنني لا ألوم البقية من البشر، فقد بنوا عالما آخر وضعوه بحجرة خشبية أسموها التلفاز، ومجددا لم يتجاوزوا فكرة الأسود والأبيض، لكن هذا الرجل، لم يعبأ بشيء من ذلك، لم يعبأ بالأسود والأبيض، لم يهتم للشمس ولا للحر، لم تزعجه تحركات الآخرين، ربما كان يحب ذلك، تأملته جيدا، حتى إنني توقفت عن ارتشاف القهوة، كان مشردا غريبا، وعلى خلاف باقي المشردين، لم يكن ميتا، كان يحيا كل شيء في تساؤل أجهله من مكاني هذا، تساؤل جعله يستفسر عن الأمور البسيطة والتي لا نلحظها عادة، كالسماء التي أخذت جل وقته في النظر، الأطفال وحتى الأشجار، يفعل كل ذلك وهو يتحسس نفسه، يرفع يديه، يراقبهما، يتلمس مرفقيه ويسير نحو كل اتجاه، يكتشف الجمال في كل شيء، ثم بعد وهلة اقترب منا، وعلى بعد أمتار ووسط الطريق توقف، اصطدم به المارة، لم يتحرك، وصرخ عليه الراكبون، حتى إن رجلا شرطة قاما بدفعه ناحيتنا يبعدانه عن الطريق، لكنه لم يهتم. توقف عن فعل ما كان يفعل، وفكر للحظات، كان شيء ما يشغل باله، شيء من الجنون يشغل باله، لحظتها وددت أن أعرف ما يفكر به، فقد بدا سعيدا، بل أسعد من ذلك بكثير، بينما لم تظهر ثيابه تلك السعادة التي تغمره، كانت رثة وأبسط من أن تفعل ذلك؛ قميصا أبيض اتجه لونه إلى الاصفرار، وسروالا يحافظ على لونه الأسود بصعوبة، حافي الرجلين وكانت تصلبات أصابعه كتصلبات يديه اللتين ملأتهما الجراح والندوب. بدا لي كأنه كان يخوض حربا في الجوار، لم يبال بشيء من حوله، بل تقدم نحو المقهى وجلس على بعد مني، جلس جلسة ملك، وقد ركض صاحب المقهى بعصاه نحوه محاولا منعه من المكوث هنا، إلا أنه سرعان ما تراجع عن قراره وبدله بابتسامة شيطانية، فقد أخرج المشرد قطعا نقدية كانت كفيلة بشراء مودة الرجل المصطنعة، بل كفيلة بتحويل ذلك العنصري إلى إنسان مجددا، ولو أنه تصنع إنسانيته تلك. وقد جلس المشرد وكأنه ملك لمملكة لا يعرفها أحد سواه، ولا يشاركه فيها أحد غيره، كان ملكها الواحد، ساكنها الوحيد، حارسها وعبدا فيها، كان كل شيء في تلك المملكة، مملكة الرجل الواحد، كان ملك مملكة الضمير، وبدا أن مملكته فوق كل شيء، فوق العالم الذي نعرفه، فوقنا نحن البشر، فوق الوجود الذي ننشده، فوق العالم الذي أوجده البشر وفوق البشر الذين أوجدهم الوجود، والأهم فوق الوجود بصمة الرب على العدم.
لم أعرف سره، سر سعادته تلك، وتساءلت وأنا ألتفت إلى باقي البشر، لم يراقبه أحد، لم ينتبه إليه أحد، كان أشبه بحقيقة لا يعرفها أحد سواي، قصة لا يراها أحد غيري، وتساءلت: لم أنا الوحيد الذي يراقبه، لم أعهد نفسي مباليا بالناس من قبل، لكنني أفعل الآن، أنا أهتم مجددا، وبمشرد، مشرد غني، ابتسمت، ابتسمت وأنا أراقبه الآن بينما تخلى البقية عن فعل ذلك، رفع يده مناديا على النادل، استمتع بفعل ذلك، غريبة هي الحياة، التي تجعل مشردا يجلس إلى جانبي متخطيا كل الحواجز التي أقامتها عنصريتنا، أم أنني المشرد وها أنا أجلس قرب ملك ما، مشرد يتصرف وكأنه ملك، وطبيب مثلي بطباع مشرد أناني، وفكرت مجددا، ربما هو الملك وبقيتنا مشردون في عالم نحن بنيناه. ولما اقترب النادل العربي، وضعت قهوتي جانبا، اقتربت في تلك اللحظة حافلة على بعد منا، حافلة يجدر بي ركوبها الآن، لأنها ستكون آخر حافلة، لكنني ما اهتممت لذلك، اخترت أن أراقب المشرد، شيء ما دفعني إلى البقاء جالسا، شيء ما ثبتني في مكاني، كان يتحدث إلى النادل، بينما التفت إلى الحافلة في عجل ثم فكرت في عجل، لكنها لم تعد تهمني، وفكرت ربما لم يجب أن أنتظرها، ربما كنت أنتظر هذا المشرد، استدرت مجددا إليهما - إلى المشرد والنادل - وكنت أفهم كلمات قليلة من لغة العرب هنا، وسمعته يقول للنادل العربي: ماء.
شعرت أنه يقول، سأكتفي بكوب ماء فقط، لكنه بدا أتعب من أن يشرح احتياجاته، وقد اختصر كل شيء في كلمة ماء، كما اختصر الرب الحياة في الماء.
Página desconocida