Rahmán y Shaytán
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Géneros
وإشكالية الأخلاق
يعزو الباحثون الغربيون غياب شخصية الشيطان الكوني عن المعتقد التوراتي إلى حرص محرري التوراة على وحدانية يهوه، وتنقية مفهوم الإله الأعلى من أية ظلال قد تجنح به إلى ثنوية أو تعددية كان الدين الشعبي اليهودي ميالا إليها على الدوام. ولكن الأمر كما نراه، هو أن غياب الشيطان الكوني واقتصار ممثل الشر في التوراة على دور ثانوي جدا، يرجع بالدرجة الأولى إلى قيام إشكاليتين رئيستين لم يتوصل الفكر التوراتي إلى حلهما حتى نهاية فترة تدوين الأسفار القانونية، وهما إشكالية التوحيد وإشكالية الأخلاق. فمن جهة أولى، لم تتوصل الأيديولوجيا التوراتية إلى مفهوم صاف للوحدانية بخصوص الإله يهوه، كما لم تتوصل إلى ربط الأخلاق بالدين وإلى رسم صورة إله أخلاقي يجمع إليه كل الكمالات، ويؤسس لصلة بينه وبين العالم والإنسان قائمة على الأخلاق، الأمر الذي حرم الأيديولوجيا التوراتية من أهم عنصرين لازمين لبناء شخصية متكاملة للشيطان في أي معتقد ديني. (1) إشكالية التوحيد
لكي نفهم إشكالية التوحيد في التوراة، علينا أن نوضح، ابتداء، الفرق بين مفهومين دينيين يجري الخلط بينهما في معظم الأحيان، وهما مفهوم التوحيد ومفهوم وحدانية العبادة. فالتوحيد هو الاهتداء إلى فكرة الله. والله ليس إلها أعلى شأنا من بقية الآلهة المتحكمة في مظاهر الطبيعة وما وراء الطبيعة، بل هو الألوهة الوحيدة الخافية، والمتبدية في كل مظاهر الكون والطبيعة، إنه العلة الأولى والمآل الأخير، مبتدأ السببية ونهايتها، أما وحدانية العبادة فهي شكل من أشكال التعددية (= الشرك = الوثنية)، يتميز بعبادة إله واحد والإخلاص له من دون بقية الآلهة، التي لا ينكر وجودها وإنما تستبعد من الحياة الدينية للجماعة لصالح ذلك الإله المعبود. اعتمادا على هذا التمييز بين المفهومين، يمكننا القول بأن المعتقد التوراتي كان معتقد وحدانية عبادة لا معتقد توحيد بالمعنى الدقيق للمصطلح، وإن الانتقال من المفهوم الأول إلى الثاني لم يتحقق تماما، حتى في أسفار الأنبياء التي وصلت إلى عتبة التوحيد دون أن تتخلص من الإرث الأيديولوجي التقليدي.
لقد نشأت وحدانية العبادة في التوراة عندما قام أحد الآلهة الفلسطينية المدعو يهوه بإبرام عقد بينه وبين الأسلاف المفترضين لبني إسرائيل، ومضمون هذا العقد (الذي سمي عهدا) هو أن يعبد أولئك الأسلاف وذريتهم من بعدهم الإله يهوه من دون بقية الآلهة، مقابل تقديمه الحماية والعون لهم وإعطائهم أرض كنعان (= فلسطين) ملكا لهم بعد انتزاعها من أهلها. نقرأ في سفر التكوين 17 عن أول صيغة لهذا العقد بين يهوه والأب الأول إبراهيم: «وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم، عهدا أبديا، لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا، وأكون إلههم» (17: 7-8). ثم يجدد يهوه عقده هذا مع إسحاق وابنه يعقوب من بعده، وبعد ذلك بأكثر من أربعمائة سنة يعود إلى تجديد العهد مع موسى وشعبه، لقاء إخراجهم من مصر وتحريرهم من العبودية. نقرأ في سفر الخروج 6 على لسان يهوه: «قد سمعت أنين بني إسرائيل وتذكرت عهدي، لذلك قل لبني إسرائيل: أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين، وأتخذكم لي شعبا وأكون لكم إلها وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أعطيها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأعطيكم إياها ميراثا» (6: 6-8).
يتضح لنا معتقد وحدانية العبادة منذ أول وصية تصدرت الشريعة التي أنزلها يهوه على موسى. نقرأ في سفر الخروج، 20: «ثم تكلم الرب بجميع هذه الكلمات قائلا: أنا الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لأني أنا الرب إلهك، إله غيور» (20: 1-5). ففي هذا المقطع الذي سوف يتكرر مضمونه حتى آخر الأسفار، نلاحظ أن يهوه لا يدعي الوحدانية، وإنما يطالب بأن يكون المعبود الوحيد من دون بقية الآلهة التي تثير غيرته، فهو إله غيور، لا يحتمل وجود آلهة أخرى إلى جانبه، على عكس بقية آلهة الشرق القديم التي لم تستبعد بعضها بعضا، وإنما شكلت فيما بينها مجتمعا منظما أدق التنظيم. وها هو يخاطب موسى مرة أخرى مؤكدا على صفة الغيرة الشديدة عنده : «فإنك لا تسجد لإله آخر، لأن الرب اسمه غيور، إله غيور» (الخروج، 34: 14). وغيرته تشبه نارا آكلة: «احترزوا أن تنسوا عهد الرب إلهكم الذي قطعه معكم، لأن الرب إلهك هو نار آكلة، إله غيور» (التثنية، 4: 23-24). وتماثيل الآلهة الأخرى تدعى بتماثيل الغيرة، وهي تهيج غيرة يهوه. نقرأ في رؤيا النبي حزقيال: «وأتى بي الملاك إلى أورشليم، إلى مدخل الباب الداخلي المتجه نحو الشمال حيث مجلس تمثال الغيرة، المهيج للغيرة» (حزقيال، 3: 8). وعندما يجدد يشوع عهد الشعب مع يهوه بعد موت موسى يذكرهم بغيرة الرب: «فالآن اخشوا الرب واعبدوه، وانزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم واعبدوا الرب. وإن ساء في أعينكم أن تعبدوا الرب فاختاروا لأنفسكم اليوم من تعبدون. وأما أنا وأهل بيتي فنعبد الرب. فأجابه الشعب وقالوا: حاشا لنا أن نترك الرب لنعبد آلهة أخرى، لأنه هو إلهنا. قال يشوع للشعب ... إله غيور هو، لا يغفر ذنوبكم وخطاياكم. وإذا تركتم الرب وعبدتم آلهة غريبة يرجع ويسيء إليكم ويفنيكم» (يشوع، 34: 14-20).
وغالبا ما يوصف يهوه بأنه الأعظم بين الآلهة: «من مثلك بين الآلهة يا رب، من مثلك معتزا بالقداسة» (الخروج، 15: 11). وأيضا: «أي إله عظيم مثل الله»
1 (المزمور 77: 13). وأيضا «يا رب، إله الجنود، من مثلك إله قوي، وحقك، من حولك» (المزمور 8: 89). كما يلقب بإله الآلهة: «فأجاب بنو رأوبين وقالوا: إله الآلهة، الرب إله الآلهة» (يشوع، 22: 21). وأيضا: «إله الآلهة، الرب تكلم، ودعا الأرض من مشرق الشمس إلى مغربها» (المزمور 50: 1). ونجده أحيانا واقفا بين الآلهة يصدر إليهم الأوامر: «الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي: حتى متى تقضون جورا وترفعون وجوه الأشرار؟ ... أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، ولكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون» (المزمور 82: 1-6). إن هذا المقطع رغم غموضه وغموض هوية أولئك الآلهة التي يشير إليها، ليؤكد فكرة مجمع الآلهة التي تظهر في مواضع أخرى أيضا: «لأنه من يعادل في السماء الرب؟ من يشبه الرب بين أبناء الله؟ إله مهوب جدا في جماعة القديسين، ومخوف عند جميع الذين حوله» (المزمور 89: 6-7). وجماعة القديسين في هذا المزمور هم أبناء القدس نسل الإله إيل المذكورون في نصوص أوغاريت. نقرأ في النص 129 من ملحمة بعل وعناة على لسان بعل ما يلي: «أنا ليس لي بيت كما للآلهة، وليس لي مسكن كما لبني القدس.» إن مؤدى الفقرة المقتبسة أعلاه من المزمور 89 لتدل بجلاء على أن يهوه ليس الإله الأعلى بل واحدا من أبنائه وأعظمهم شأنا، وهذا ما نجده في مزمور إشكالي آخر يقول على لسان داود: «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك» (المزمور 110: 1).
وإذا كان التنزيه ملازما لمفهوم الله الواحد المتعالي عن الوصف، فإن التشبيه ملازم لمفهوم التعددية. ولعلنا غير واجدين بين جميع آلهة المشرق القديم إلها أكثر شبها بالبشر من إله التوراة. ففي سفر التكوين نجده يقوم بزيارة ودية لمضرب خيام إبراهيم ومعه اثنان من أتباعه، فيتكئون تحت الشجرة ويأكلون عجلا طبخته سارة زوجة إبراهيم. نقرأ في الإصحاح 18: «وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون. فقالوا هكذا نفعل» (18: 1-5). «وفيما هم يستريحون من وعثاء السفر، أمر إبراهيم أحد غلمانه بذبح عجل طري أعطاه لزوجته فطبخته، وعجنت خبزا وجهزت زبدا ولبنا، ووضع إبراهيم ذلك كله أمام ضيوفه فأكلوا وشبعوا» (18: 6-9). ثم قام الضيوف ومشى إبراهيم معهم ليشيعهم. وفيما هو يسير جنب الرب، بثه يهوه مكنونات قلبه: «وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم. فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع الأمم ... إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيتهم قد عظمت جدا» (18: 16-20).
بعد ذلك يظهر يهوه ليعقوب حفيد إبراهيم، ولكن بطريقة أكثر درامية، فعندما وصل يعقوب أرض كنعان قادما مع أسرته من آرام النهرين حيث تغرب مدة طويلة، ظهر له إنسان عند موقع يدعى مخاضة يبوق وصارعه ليلا، وعندما لم يقدر عليه حتى طلوع الفجر ضربه في موضع الحق من فخذه «وهو رأس الورك»، فانخلع حق يعقوب ولكنه بقي ممسكا بخصمه الذي استغاث طالبا إطلاقه، ولم يكن هذا الخصم المستغيث سوى يهوه نفسه. نقرأ في سفر التكوين، 32: «فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال: لا أطلقك إن لم تباركني. فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك. فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب المكان فنيئيل قائلا: لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي» (32: 22-30).
وقد رآه موسى مرتين رؤية العين، في المرة الأولى من قفا وفي الثانية من أمام. نقرأ في سفر الخروج، 33: «فقال - موسى - أرني مجدك. فقال: لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش. هو ذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يري» (33: 18-23). ورغم هذا التحذير من رؤية وجه الرب فقد سمح يهوه في مناسبة أخرى لموسى وسبعين شيخا من شيوخ إسرائيل أن يروه وجها لوجه على جبل سيناء. نقرأ في الخروج 24: «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون شيخا معه من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق وكذات السماء في النقاوة، ولكن لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل، فرأوا الله وأكلوا وشربوا» (24: 9-11). وهناك مواجهة ثالثة ذات طابع عنيف بين يهوه وموسى. فبينما موسى عائد إلى مصر من مديان ومعه صفورة زوجته وابنهما، ظهر له الرب وأراد أن يقتله لأن صفورة مانعت في ختان ابنها، فأسرعت صفورة وأمسكت بحجر صوان مسنون وختنت ابنها ثم مست رجلي يهوه. ولمس الرجلين هنا على ما نعرف من مواضع أخرى في الكتاب هو كناية عن لمس الأعضاء التناسلية. نقرأ في الخروج 4: «وحدث في الطريق أن الرب التقاه وطلب أن يقتله، فأخذت صفورة صوانة وقطعت غرلة ابنها، ومست رجليه فقالت: إنك عريس دم لي، فانفك عنه» (4: 24-26).
Página desconocida