Rahmán y Shaytán
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Géneros
وكما أن براهمان الخافي هو القاع التحتي لكل مظاهر العالم الموضوعي، فإنه في الوقت ذاته القاع التحتي لكل ما يجري على النطاق الذاتي من وعي وإحساس وتفكير، إنه أتمان، جوهر النفس في تمايزها عن الجسد. نقرأ في مقطع أحد الأوبانيشادات: «هو الذي يقيم في الأرض وفي المياه وفي النار وفي الجو وفي الرياح وفي السماء وفي الجهات الأربع ... هو الذي يقيم في كل الأشياء ومع ذلك هو غيرها، هو الذي يدبر كل شيء من الداخل، هو النفس، يقيم في الأنفاس وفي الكلام وفي العين وفي الأذن ... هو الرائي الذي لا يرى، والسامع لا يسمع، والمفكر الذي لا يفكر به، والفاهم الذي لا يفهم، هو نفسك: أتمان.» في هذا المقطع وأمثاله، يؤكد الأوبانيشاد على أن جوهر الفرد وروح العالم هما شيء واحد، وهذا ما تعبر عنه الجملة الشهيرة الواردة في شاندوجيا أوبانيشاد: «هو أنت.» أي أن النفس الفردية هي من ذات طبيعة النفس الكلية، وأن الحقيقة العليا هي براهمن-أتمان، الذاتي والموضوعي في واحد، وعندما تعرف النفس الفردية من خلال حدسها الخلاق تطابقها مع براهمن تصل حالة السعادة الأرضية الكاملة، وتفلح في الانعتاق والاتحاد مع براهمان بعد الممات.
لم يعلم البراهمانيون في البداية سوى أن النفوس التي هي من طبيعة واحدة، ترجع إلى مصدرها بعد حياة واحدة في الجسد وفي العالم المادي، ولكن مذهب التناسخ بدأ يفرض نفسه على البراهمانية بقوة منذ عصر الأوبانيشاد، وذلك بتأثير معتقدات سكان الهند الأصليين التي بقيت حية رغم تأثرها بديانة الفاتحين. يقول مذهب التناسخ بوجود جواهر فردية مستقلة هي الأرواح، وهذه الأرواح تحل في أجساد حية لتعيش دورة في عالم السمسارا، وتراكم سلسلة من الكارما التي من شأنها تحديد طبيعة تناسخها أو تناسخاتها المقبلة، والكارما هي كل الأعمال والأفكار والأقوال، منظورا إليها بمعيار أخلاقي، والتي ستجد ثوابها وعقابها في التجسد المقبل، فالكارما الحسنة سوف تقود الروح إلى تجسد أعلى، أما الكارما السيئة فسوف تقود إلى تجسد أدنى، قد يصل حد التجسد في حيوانات أو حشرات. وتدوم دورة التناسخ هذه إلى ما لا نهاية، إذا لم تستطع الروح شق طريقها بثبات في طريق صاعد أبدا نحو تجسدات أفضل فأفضل، حتى تفلح أخيرا في الانعتاق من الدورة السببية. وهنا قام الفكر الديني الهندوسي بعقد الصلة بين نظام الطبقات الاجتماعي وقانون الكارما، ووجد التفاوت الاجتماعي واللامساواة في النظام الطبقي تفسيره البسيط. فإذا كان البراهماني يتمتع بكل ما تقدمه له طبقته من مزايا، والشودرا يعاني من كل الشروط الحياتية البائسة المحيطة بطبقة الخدم، فلأن كلا منهما قد قدم في حياته الماضية ما أهله لهذه الحياة الحالية. وبالطبع فإن أية محاولة لإزالة الفوارق بين الطبقات هو عمل يرقى إلى مستوى الهرطقة لأنه يعاكس القانون الكوني للسبب والنتيجة.
على أن البراهمانية بقيت أمينة لموقفها السابق من الأخلاق رغم تبنيها لعقيدة التناسخ، فالسلوك الأخلاقي في حد ذاته لا يوصل إلى الانعتاق، بل يؤهل صاحبه إلى تجسد أفضل. لقد كان على البراهماني الصالح أن يلتزم بالقواعد الأخلاقية الخاصة بطبقته، ولكن سلوكه الأخلاقي هذا وقف على الشطر الأول من حياته، وهي الفترة التي يمارس خلالها حياته الاجتماعية كاملة فيتزوج وينجب الأولاد ويساهم في كل نشاط إيجابي تتطلبه حياة الجماعة. أما في الشطر الثاني من حياته، فإن البراهماني ينسحب من العالم ويهجر أسرته التي لم تعد بحاجة إليه، فيذهب إلى الغابة ليعيش حياة الزهد والتنسك والتأمل، تاركا العالم بخيره وشره معا، مبتدئا رحلته الداخلية العرفانية التي يأمل منها أن تقوده إلى الانعتاق. نقرأ في أحد الأوبانيشادات: «إن الخالد ليس لديه خوف مما ارتكبه من شر ولا أمل فيما فعله من خير، لا الخير ولا الشر يتحكمان به، وإنما هو الذي يسيطر عليهما كليهما، لا شيء مما فعله ولا شيء مما أهمل فعله يمكن أن يكون له أهمية عنده.» وفي أوبانيشاد آخر نجد أن الأرواح بعد مغادرتها أجسادها تصعد إلى القمر وتقيم فيه ردحا قصيرا، ثم يتابع بعضها سيره نحو السماء، وبعضها الآخر يعود إلى الأرض مع الأمطار. يمتلئ القمر بحلول هذه الأرواح فيتزايد وعند مغادرتها يتناقص، ولكل قادم جديد يتقدم القمر بالسؤال: من أنت؟ فإذا أجابه أنا أنت «وهي الصيغة التي تدل على وصوله إلى العرفان الداخلي الحقيقي بالتوحد مع براهمان» تركه يمر، ومن لم يحر جوابا عاد إلى الأرض ليولد من جديد في جسد ما بحسب ما قدمته يداه وما حقق من معرفة، أي إن كل ما يمكن للعمل الصالح أن يفيد به صاحبه هو إتاحة الفرصة أمامه للتجسد في صورة إنسانية تعطيه فرصة جديدة لمعرفة نفسه ومعرفة ربه.
ولقد أدى تلاؤم البراهمانية مع عقيدة التناسخ والكارما إلى تشكيل المذهب البراهماني المتأخر، الذي حاول التوفيق بين جوهر البراهمانية وعقيدة التناسخ القائمة على الأخلاق، وتجد هذه الصياغة التوفيقية شكلها الأكثر وضوحا في مذهب الفيدانتا. يقول مذهب الفيدانتا بوجود حقيقتين، الأولى ظاهرية وهي ذات رتبة دنيا، والثانية باطنية وهي ذات رتبة عليا. بموجب الحقيقة ذات الرتبة العليا يستطيع الفرد تحقيق الاتحاد مع النفس الكلية عن طريق العرفان الداخلي، وبموجب الحقيقة ذات الرتبة الدنيا يستطيع أولئك الذين لا يعرفون براهمان تحقيق الخلاص عن طريق التعبد للإله المشخص الخالق، وإنجاز واجباتهم على أتمها. لقد أدرك أصحاب هذه البراهمانية المتأخرة أن صوفية الاتحاد مع براهمان هي أمر مختلف تماما عن مذهب التناسخ ذي القاعدة الأخلاقية، ففضلوا تركهما متعايشين جنبا إلى جنب من خلال مذهب الحقيقتين. ولقد قاوم المعلم شنكارا، وهو أهم معلمي الفيدانتا، بعناد فكرة أن الانعتاق مرتبط بالموقف الأخلاقي للإنسان، وكان يردد بإلحاح أن الأخلاق ليست إلا محركا للحقيقة الظاهرية، ولم يجد لها إلا مكانة ثانوية في السعي الحقيقي إلى الاتحاد المباشر ببراهمان.
إلى جانب معتقد التناسخ والكارما فقد تبنت البراهمانية معتقد الدمار الدوري للعالم وإعادة خلقه مجددا، ففي الزمن الخطي الذي يتقدم دوما نحو الأمام منطويا على تاريخ للكون وللإنسان مفتوحا على اللانهاية، مما آمنت به الديانة الفيدية والبراهمانية المبكرة، صار لدى البراهمانية في عصر الأوبانيشاد تصور دائري للزمن وللتاريخ، فالزمن يدور على نفسه دورة كاملة لينتهي إلى حيث ابتدأ، وبعد هدأة في حضن مياه السرمدية ينطلق إلى دورة تالية، وهكذا إلى ما لا نهاية. الزمن لا بداية له ولا نهاية، والعالم لم يخلق مرة واحدة في زمن معين، ولن يئول إلى فناء تام، وبذلك تتسع دورة السمسارا التي تتناسخ فيها الأرواح لتشمل العالم بأسره، حيث كل شيء آيل إلى الدمار وكل شيء معد للميلاد الجديد. وللزمن في دورانه على نفسه دورتان، الأولى تدعى ماها-يوغا وهي الدورة الصغرى، والثانية تدعى كالبا وهي الدورة الكبرى، تسير الدورة الصغرى ماها-يوغا عبر أربعة عصور تتدرج من الكمال التام في العصر الذهبي إلى الفساد التام في العصر المظلم، وعدد سنواتها 4320000 سنة. أما الدورة الكبرى كالبا فتتألف من ألف دورة صغرى، وتشكل يوما واحدا من أيام برهما. في نهاية كل كالبا، وفي آخر لحظة من غسق يوم برهما، تنشطر الأكوان وتتهاوى عائدة إلى الماهية القدسية التي نشأت عنها، ويهدأ إيقاع الزمن في ليل برهما الطويل. وفي أول لحظة من فجر اليوم التالي، يولد الإله الخالق برهما مرة أخرى من أعماق المطلق براهمان ليقوم بخلق كون آخر يدخل في كالبا جديدة. وهنا تعود الأرواح التي بقيت غافلة عن نفسها ناسية أعمالها الماضيات في الليل، فتنتبه من غفلتها وتحمل كل واحدة منها أعمالها لتدخل في دورة تناسخ جديدة تمتد مليارات السنين قبل أن تهجع مع هجعة الكون في آخر الكالبا ... وهكذا إلى ما لا نهاية. وقد استمر هذا المعتقد في جميع أشكال الهندوسية اللاحقة.
الهندوسية الكلاسيكية
تقوم الهندوسية الكلاسيكية، التي بدأت بالتشكل منذ القرون الأولى للميلاد، على معتقد الألوهية ولكن دون تخل تام عن معتقد وحدة الوجود، لأنها نشأت وتطورت تحت نفوذ الفكر البراهماني المتأخر. فخلال الفترة ما بين 200 و700 ميلادية، عندما دخلت الحضارة الهندية عصرها الذهبي برعاية الإمبراطور غوبتا وخلفائه، ظهر معلمون روحيون ينتمون إلى الفكر البراهماني، ولكنهم في الوقت نفسه راغبون في سد حاجة السواد الأعظم من الناس إلى إله مشخص قريب يمكن محبته وعبادته والدخول في علاقة شخصية معه. وقد حصلت النقلة الحاسمة بين البراهمانية المتأخرة والهندوسية الكلاسيكية، عندما صاغ أولئك المعلمون الروحيون عقيدة تقول بأن المطلق غير المشخص براهمان يتجلى في العالم من خلال ثلاث ألوهات تمثل الوظائف الإلهية الثلاثة، وهي: برهما الخالق، وفيشنو الحافظ، وشيفا المدمر. وبذلك نشأت عبادات محلية تدور حول واحد أو أكثر من هذه الآلهة الثلاثة.
إن براهمان حاضر في العالم من خلال إله مشخص يدبره ويسيره ويهتم بشئون خلقه، ويؤمن لهم سبل الانعتاق والخلاص. وهنا تحل محبة الإنسان للإله والإخلاص له محل الكدح الروحي الذي يقوم على العرفان، وتحل الأعمال وتأدية الواجبات على أتمها محل الممارسات الزهدية والتقشفية. إن محبة الإله والاستسلام الكامل له، تقود إلى اتحاد محبة معه لا إلى اتحاد عرفان، وبذلك تستطيع الشرائح الشعبية الواسعة التي ليس بمقدورها الدخول في اتحاد عرفان مع المطلق أن تتخذ إلى الله طريقا أقل مشقة وأقرب إلى مقدرتها الذهنية وطاقتها على الكدح الروحي، وهذا الطريق لا ينكر طريق العرفان بل يعتبره طريقا أعلى وأنبل لمن يستطيع السير فيه.
في عبادة الإله شيفا، يتبدى المعتقد الهندوسي في أوضح أشكاله الألوهية، فالعلاقة بين الله وخلقه هي علاقة محبة، وكل عمل من أعماله يصدر عن اهتمام بمخلوقاته. الوجود كله مؤلف من الله ورعيته (= الأرواح) والأصفاد، وهذه الأصفاد ثلاثة: (1) عالم الظواهر (= مايا) وهو عالم أزلي أبدي لا بداية له ولا نهاية. (2) الكارما وهي الفعل وثماره مما تراكمه الأرواح خلال تجسداتها في عالم الظواهر. (3) التجزئة وهي التي تجعل الروح منغلقة على نفسها ومنفصلة عن الله. في حالتها الدنيا تكون الروح جوهرا فرديا بلا شكل ولا وعي ولا حركة، وغير قابلة للفناء في الوقت ذاته، ثم تصير الروح إلى المرحلة الوسيطة عندما تحل في جسد وتتحول إلى ذات واعية نشطة تتحرك في عالم الظواهر المادية وتراكم الكارما الخاصة بها، وبذلك تصير أسيرة الأصفاد الثلاثة. وهذه الحالة الواعية في الأصفاد الثلاثة هي التي تهيئها للانعتاق وتجمعها إلى الله، وهي المرحلة الثالثة. غير أن الروح المنعتقة لا تذوب في الله، كما هو الحال في التصوف البراهماني، وإنما تنضم إليه مع بقائها واعية لوجودها ووجوده رغم أنها صارت إلى طبيعة أقرب إلى طبيعته.
ولقد شابه موقف الهندوسية الكلاسيكية من الأخلاق، في بداية عهدها، موقف البراهمانية. فمحبة الله هي محبة شخصية موجهة من الفرد إلى الخالق، ولا تتسع بالضرورة لتشمل محبة الآخرين. والأعمال التي يتوجب على المؤمن إتيانها لم تكن تتجاوز الواجبات التي يحددها انتماؤه لطبقة معينة والالتزام بأخلاقياتها الرسمية، ولم يكن هذا الموقف من الأخلاق ليعني بأية حال من الأحوال أن الهندوسي ليس معنيا بمحبة جاره والسلوك بشكل أخلاقي كامل، بل إن السلوك الأخلاقي يجب ألا يبذل استجلابا لمكافأة ما إلهية كانت أم اجتماعية، وأن يكون حرا من أي قيد أو شرط. على أن الهندوسية الكلاسيكية ما لبثت حتى سارت بمعتقدها إلى نتيجته المنطقية، وتحول الإله من كائن فوق الخير والشر إلى كائن أخلاقي، ودخلت الأخلاق في صلب السلوك الديني. فإذا كان الإله أخلاقيا فإنه يحض على مكارم الأخلاق ثم يجزي بها.
Página desconocida