Rahmán y Shaytán
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Géneros
عندما وصل الخبر إلى إنليل، أمر بإغلاق الأبواب والاستعداد للدفاع عن قصره، ثم عقد اجتماعا للآلهة العليا تدارسوا خلاله الأمر، وأوفدوا الإله نسكو لمعرفة دوافع المتمردين وتحديد المسئول عن الشغب، فخاطبهم نسكو قائلا: «أرسلني أبوكم آنو، ومشيركم البطل إنليل ، وحاجبكم ننورتا وكبيركم إنوجي . من الذي يحرض على المعركة؟ من يثير العدوان؟ ومن أشعل الحرب؟ أجابوه: جميعنا أعلن الحرب، كل الآلهة أعلنت الحرب؛ لبثنا طويلا في الحفرة، العناء الشديد قتلنا، شاق عملنا وعظيم كربنا، والكل، كل الآلهة أيدتنا»، نقل نسكو إلى إنليل ما دار بينه وبين المتمردين، فتأثر إنليل حتى دمعت عيناه، ثم تداول مع بقية الآلهة العظمى في كيفية إنصاف الآلهة المكدودة، وقرروا في النهاية خلق الإنسان ليحرر الآلهة من العمل ويخدمهم، فخلق الإنسان من طين معجون بدم إله قتيل قدم لهذه الغاية، وقامت بهذه المهمة الإلهة مامي، ربة الولادة الملقبة بسيدة الآلهة، بالتعاون مع إنكي إله الماء.
وفي المقطع الخاص بخلق الإنسان في الإينوما إيليش، يزف مردوخ للآلهة خبر بنائه لمدينة بابل ولمعبدها الكبير الذي سيكون معدا لهم: «سيكون مفتوحا لاستقبالكم وبه تبيتون، أو تهبطون من السماء للاجتماع، سأدعو اسمه بابل، أي بيت الآلهة الكبرى، وسينهض لبنائه أمهر البنائين ... لما انتهى آباؤه من سماع كلامه، توجهوا بالسؤال لبكرهم مردوخ: بعد كل ما صنعت يداك، لمن ستوكل سلطانك؟ فوق الأرض التي ابتكرتها يداك لمن ستوكل حكمك؟ لسماعه حديث الآلهة حفزه قلبه لخلق مبدع، فأسر للآلهة بما يعتمل في نفسه وأطلعهم على ما عقد عليه العزم: سأخلق دماء وعظاما، منها سأشكل الإنسان لالو. نعم، سوف أخلق لالو الإنسان وسنفرض عليه خدمة الآلهة فيخلدون إلى الراحة، قال إيا مبديا رأيه: ليقوموا بتسليم أحدهم فيقتل ومنه تصنع الإنسان، ليجتمع كبار الآلهة هنا ويسلموا إلينا الإله المذنب من أجل راحة الباقين. قام مردوخ بدعوة الآلهة الكبار وقال لهم: أريد منكم قول الصدق وقسمي لكم ضمان، من الذي خلق النزاع؟ من دفع تعامة وحرض على القتال؟ سلموا لي من خلق النزاع ليلقى جزاه وتخلدون إلى الراحة. فأجابه الآلهة: إنه كينغو الذي خلق النزاع ودفع تعامة وحرض على القتال، ثم قيدوه ووضعوه أمام إيا، أنزلوا به العقاب، قطعوا شرايين دمائه، ومن دمائه جرى خلق البشر، ففرض إيا عليهم العمل وحرر الآلهة.»
8
على هذا النحو ينتهي زمن الأصول ويبدأ زمن الإنسان، وعلى هذا النحو ترسم الأسطورة الرافدينية أصل الإنسان وتحدد علاقته بعالم الآلهة ودوره في الحياة، لقد خلق منذ البداية لغرض واحد هو خدمة الآلهة ورفع عبء العمل عنها، والعلاقة بين الطرفين كانت وتبقى أبدا علاقة السيد بالعبد، الآلهة خالدة، وأما الإنسان ففان، والخط الفاصل بين العالمين حاد وحاسم، لا يعطي أملا للإنسان حتى بمجرد التفكير بالخلاص من شرطه الأرضي، والالتحاق بالعوالم القدسية بعد فناء جسده وانتهاء كدحه على الأرض، أو بتبديل عالمه وتحويله إلى عالم أفضل، ولذا فإن أفضل ما يصبو إليه هو اللذائذ الحياتية الصغيرة، خلال عمر قصير ينتهي به إلى العالم الأسفل. وهذا ما عبر عنه نص ملحمة جلجامش من خلال حديث فتاة الحان التي قالت لجلجامش الباحث عن الخلود: «إلى أين تمضي يا جلجامش؟ وإلى أين تسعى بك القدم؟ الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، لأن الآلهة لما خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيبا وحبست في أيديها الحياة. وأما أنت يا جلجامش فاملأ بطنك، وافرح ليلك ونهارك، اجعل من كل يوم عيدا، وارقص لاهيا في الليل والنهار، اخطر بثياب نظيفة زاهية، اغسل رأسك واستحم بالمياه، دلل صغيرك الذي يمسك بيدك، أسعد زوجك بين أحضانك، هذا هو نصيب البشر.»
9
في ظل مثل هذه العلاقة، تبقى الرابطة الوحيدة بين الأرض والسماء هي رابطة الشعائر والطقوس، فالآلهة لا تتصف بالعدالة ولا بالخير، وكل ما تسعى إليه هو عبادة الإنسان وقرابينه التي يقدمها إليها، ومن خلال الشعائر والقرابين يستطيع استمالتها وحثها على اتخاذ مواقف إيجابية منه. نقرأ في ملحمة أتراحاسيس البابلية أن القحط قد حل في البلاد حتى عم الجوع وهلك الناس، فالتمس الحكيم أتراحاسيس وجه ربه إيا، الذي نصحه بتقديم القرابين وفروض العبادة لأداد إله المطر وحده، من دون بقية الآلهة، عله يخجل من هدية الإنسان: «لا تخشوا آلهتكم، لا تصلوا لعشتاركم، فقط التمسوا باب أداد، أحضروا الخبز أمامه، عسى أن يمطر الندى خلسة في المساء ليحمل الحقل الحبوب.» نقل أتراحاسيس نصيحة إيا إلى قومه فعملوا بها: «بنوا بيتا للإله إيا، أحضروا الخبز أمامه، أسعده قربان الدقيق، خجل من الهدية فكف يده، في الصباح أرسل ضبابا وخلسة في المساء أمطر الندى، خلسة حمل الحقل الحبوب، غادرهم القحط وعادوا إلى أعمالهم.»
10
ومع ذلك فإن خدمة الآلهة والضراعة إليها في كل حين وتقديم القرابين لا تؤدي بالضرورة إلى حصول الإنسان على بغيته منها، لأن مشيئتها خافية على البشر، قد ترفع بواحد من الناس إلى أرفع مقام وتهوي بالآخر إلى الحضيض دونما سبب واضح. نقرأ في نص بابلي معروف بعنوان «صلاة إلى جميع الآلهة» ضراعة لإنسان متألم غضبت عليه الآلهة وتسببت في مرضه بغير جريرة أو ذنب، ولذا فإنه يعترف هنا بذنوب لم يرتكبها: «ليهدأ قلب إلهي الغاضب علي، وليرض عني الإله الذي أعرف والإله الذي لا أعرف. بجهل مني أكلت طعاما حرمه إلهي، بجهل مني وطئت مكانا حرمته إلهتي. يا ربي إن آثامي عديدة وخطاياي عظيمة، ويا ربتي إن آثامي عديدة وخطاياي عظيمة. إني جاهل حقا بما اقترفته من ذنوب وإني جاهل حقا بما ارتكبته من معاص، ولكن الإله نظر إلي بقلب غاضب، وإلهتي في غضبها تسببت في مرضي. الإنسان مخلوق قاصر التفكير، لا يدري متى يجني حسنة ولا متى يصنع إثما.»
11
ومن نص بابلي طويل معروف بعنوان «سأثني على درب الحكمة» أقتطف هذه السطور: «رفعت دعائي إلى إلهي فأشاح بوجهه عني، صليت إلى إلهتي فلم تلتفت بوجهها إلي. لقد صرت كمن لم يقدم لإلهه قربانا، وصرت كمن لم يشكر إلهته عند كل طعام، صرت كمن فقد صوابه ونسي ربه، وكمن حلف قسما عظما بإلهه كاذبا. ولكن ما يبدو للإنسان حسنا قد يكون في عين إلهه رديئا، وهل يعرف أحد مشيئة الآلهة في السماء؟ هل يعرف أحد خطط الآلهة على الأرض؟»
Página desconocida